هل كان حوار جريدة الصحافة الشهير منتحلا ؟؟!

زهير إسماعيل
شاهدت البارحة حوار رئيس الجمهوريّة على الوطنيّة. كنتُ استمع إلى الأسئلة “الموجّهة” من سفيان بن فرحات. وهذا الصحفي تجاوز الإنحياز إلى مرتبة الإجرام الإعلامي في “radio med” وفيما أتيح له من منابر إعلاميّة، بعد الثورة خاصّة. وهو صورة من المقاربة الفاشية للإعلام حتّى غدا أمامه الباجي البارحة في منزلة المعارض الديمقراطي الاجتماعي الذي يجيب على أسئلة مذيع من مذيعي البنفسجية في عهد بن علي السعيد: الباجي البارحة بدا “وسطيّا”، بمنطق سفيان، وغم تطرّفه في حق حمّة (صفة الفاسق، وهي مردودة على مطلقها، ولو قالها غيره لاتهم بالتدعوش: الفاسق أشدّ من السافر).
كنتُ أتابع وفي ذهني الحوار الصحفي الشهير في صحيفة الصحافة. وقد كنت يوم قراءته تردّدتُ في نسبته إلى الباجي، رغم أنّ جانبا مما ورد فيه لا يتناقض مع وجهة نظر الباجي العامة وموقعه في المشهد السياسي وعلاقته بالسيستام.
البارحة، كانت غاية الصحفي استعادة الإجابات التي أدلى بها الباجي إلى صحيفة الصحافة حول ضرورة تغيير النظام السياسي وخطورة استقلالية الهيئات التعديلية والدستورية، وربط الأزمة بالنظام السياسي المعطّل لكلّ عمل إصلاحي وإنقاذي، والفشل في تمدين النهضة.
ولكن المفاجئ أنّ أجوبة الباجي كانت مختلفة تماما في كل هذه المواضيع، ورغم محاولة الصحفي جرّه في محاولات متكررة إلى الأجوبة المرجوّة، ولكنّه أبى إلاّ أن يظهر بأنّه “وسطي” أكثر من النهضة نفسها، بعد أن منحها هذه الصفة. وكان لافتا للنّظر عندما قال الباجي مقرّرا بطريقة استفهاميّة : أنا مانيش نهضاوي؟؟!! . فحينما يقول الأول: مانيش جبهاوي” ويقول الثاني “مانيش نهضواي”، لا يمكن أن نضعهما على نفس المسافة من الحركتين والتجربتين. وهذا من لطائف الخطاب.
هذه العبارة كانت مزعجة لسفيان، لأنّها تنقل علاقة النهضة بالباجي إلى صعيد آخر؛ صعيد الاختلاف وليس صعيد التناقض الذي يحتاجه سفيان واللوبي الذي يشغّله.
هذا الاختلاف الكبير بين حوار “الصحافة” وحوار الوطنيّة يضعنا أمام أكثر من احتمال:
1. تعوّد الباجي على قول الرأي ونقيضه، وفي كثير من الأحيان يعيد التعبير عما كان صرّح حتى يخرجه عن معناه الأصلي إلى معنى آخر لا يحرجه ويخدم هدفه الجديد. والنتيجة أنه احتاج إلى مثل تلك التصريحات قبل التحوير الوزاري لكي يوفّر لوجهة نظره حظوظا أكبر للتحقق.
2. الحوار الصحفي منتحل، وجيء به قبل التحوير الوزاري بيوم لفرض وجهة نظر الشق الأقوى من السيستام في مواجهة وجهة نظر النهضة للتحوير الحكومي. وقد لاحظنا يومها تقاربا في مضمون التحوير الحكومي وتوقيته، بين مكونات مختلفة من السيستام: الرئاسة، الحكومة، الاتحاد، سكرة. والانتحال، يعكس وضع رئاسة في إطار ما يعرفه السيستام من تقلّب ميزان القوى بين مكوّناته.
الحوار مرّ مرور الكرام على الأزمة المزدوجة: أزمة الحكم والأزمة الماليّة الاقتصاديّة المتفاقمة، ولا رسائل سوى أنّ البلاد في مأزق وأنّ المشهد السياسي هذا لا أفق له، أمام منظومة حكم عاجزة.
عبّرت مسيرة مانيش مسامح، في ظل هذه الأزمة المركّبة، عن مأزقين: مأزق في مستوى الدولة ومأزق في مستوى الشارع. حتّى تساءل البعض (الصديق سعيد الجندوبي) هل من جدوى لهذه المسيرات بشارع الثورة والتي صارت أشبه بـ” un défilé de mode”؟!
وهذا ما لم تدركه المعارضة العضويّة (الحراك ونظائره) فقد ظهرت طالبة ودّ المعارضة الوظيفيّة (الجبهة) التي قبلت على مضض منحها هامش الصف الأوّل. والسبسي لم يكن بعيدا عن هذا فقد قال إنّ المسيرة شارك فيها، حمة، والجبهة، وريكوبا: كلمة ريكوبا مدمرة بالنسبة إلى الجبهويين، لا يخفف منها تنبيهم إلى تأثير السن وضعف الذاكرة…
لم اضحك كضحكي البارحة من هذه الكلمة، ليس ضحكا على الخطأ، وإنما كيف يمكن للخطأ أن يصبح أقوى من الصواب هههه… وأشدّ فتكاً.
العضوي والوظيفي، ينسحب على الشارع أيضا، وما شاهدناه يوم السبت الفارط، على إيجاباته العديدة ورسائله القويّة، ليس سوى الشارع الوظيفي. وأمّا ما نعتبره نواة الشارع العضوي فقد “اختار” أن يكون ملحقا بالشارع الوظيفي. والصور وما كان من ملابسات تشهد بذلك.
صراع الشارعين كما يوجد في المركز (مسيرة مانيش مسامح) يوجد في الداخل (في جمنة والكامور أيضا). وإذا بدا أنّ الشارع الوظيفي قد نجح في ابتلاع الشارع العضوي، فإنّ في الهامش الوضع مختلف، وإن كنٰا سنشهد الصراع نفسه.
في المركز يتجه السيستام إلى النجاح في إعادة بناء نفسه في الحكم (النهضة الوسطية عند الباجي ليست سوى رافد من روافد القديم العائد) وفي المعارضة (هيمنة المعارضة الوظيفية: الباجي عنده المعارضة هي الجبهة).
ولكن الانتفاض الاجتماعي المعبّٰر عن حقيقة الانقسامين اللذين تعيشهما البلاد سيمنحان “الشارع العضوي” عنفوانا جديدا. (الموجة الثانية)
والشارع العضوي من طبيعة مواطنية اجتماعيّة (هذا هام جدا)، لذلك نرى تجربة مانيش مسامح محاولة شبابية مازالت متوتّرة بين هذين الشارعين، ومن ثم بين المعارضتين. بل هي متوترة بين جيلين، فالشعارات المرفوعة يوم السبت منها ما ينتمي إلى جيل الثمانينيات: سحقا سحقا، ومنها ما ينتمي إلى جيل الشبيبة المعولمة على طريقة أهازيج الالتراس: نظام كلاه السوس (أي بلاغة سياسية هذه؟!)، ولا يعلم في أيّة وجهة سيكون الحسم. للمظاهرة الأخيرة رسائل غير مطمئنة.

Exit mobile version