محكمة التعقيب: متى يبدأ التفكير في الإصلاح ؟!
أحمد الرحموني
رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
البارحة صباحا كنت في محكمة التعقيب، والحقيقة اني لم اغب عنها طويلا حتى ان السنوات الثلاث التي قضيتها مستشارا ثم مدعيا عاما في نفس الدائرة لازالت حية في ذاكرتي القريبة. كنت انظر الى الاشخاص والصور والمكاتب.. وخصوصا الى الوجوه التي “تجعدت” دون ان يتغير شيء!.
في انتظار الرئيس الاول وداخل مكتبه، حديث طويل بين القضاة عن السنة القضائية التي ولت والتي حلت وتوزيع الدوائر والمكاتب والحركة القضائية (والاعتراض عليها) ومشروع قانون التقاعد ونجاح الابناء والزيادات الاخيرة في الاجور والامراض المزمنة وثرثرات اخرى…!
لقد تفطنت في التفاتة غير مقصودة -بمكتب الرئيس الاول- الى وجود صور كبيرة على طول الحائط للرؤساء السابقين لمحكمة التعقيب منذ سنة 1956 (قد يكون الاحصاء الوحيد المتوفر). 21 رئيسا على امتداد تاريخها القريب واسماء نعرفها او نسمع عنها، من الاحياء والاموات: محمد الوصيف، محمود العنابي، عبد السّلام المحجوب، رشيد الصّبّاغ، الهادي بالصادق، عبد اللّه هلالي، صالح بوراس، محمد اللجمي، مبروك بنموسى، فريد السقا، ابراهيم الماجري، خالد العياري، الهادي القديري…
لكن -وحتى لا نغرق في التاريخ- يظهر ان البوادر الاولى لتلك المحكمة بدات مبكرا في ظل عهد الامان ثم استقلت في شكلها الحديث عند احداث مجلس التعقيب في 18 مارس 1896 ثم لجنة التمييز بتاريخ 29 ديسمبر 1910 ثم ما يسمى بلجنة القضايا (او لجنة العرائض) المحدثة في 26 افريل 1921 واخيرا تاسست محكمة التعقيب بهذه التسمية في 3 اوت 1956.
ورغم ان المحكمة -التي لا يمكن ان يقل عمرها عن 120 سنة- قد عرفت على امتداد تاريخها الطويل تطورا طبيعيا في هياكلها وقضاتها وكتبتها وموظفيها فضلا عن توسيع اختصاصها فان جملة من الخصائص الجوهرية قد بقيت لصيقة بها الى الان على غرار موقعها في النظام القضائي التونسي كارفع محكمة على الاطلاق (في قمة الهرم القضائي) وانفرادها (باعتبار انها محكمة واحدة لكامل الجمهورية) اضافة الى كون المحكمة لا تمثل درجة ثالثة للتقاضي ولا تنظر مبدئيا في الاصل.
لقد علمت اليوم ان المحكمة اصبحت تعد 39 دائرة بمختلف اختصاصاتها (المدنية والعقارية والجزائية…الخ)، وبالتاكيد يرتبط ذلك بعدد القضايا والنسبة المتنامية للطعون (وهي ظاهرة ملحوظة في النظام القضائي التونسي).
ولاشك ان محكمة بهذه الاهمية بدات “تشكو” منذ مدة من تراكم مشاكلها (وثقلها التاريخي!) وضرورة التفكير في اصلاح عميق لبنيتها ووسائل عملها وطرق معالجتها للقضايا ترسيخا لدورها ومكانتها المعنوية (وهو شيئ لم يحصل الى الان !).
من الواجب ان نطمح الى اصلاح يتجاوز الجوانب الاجرائية (تطوير وسائل العمل – تعميم الاعلامية مثلا) ليتوقف عند التحديات الجديدة التي ترتبط بالدور الحقيقي للمحكمة والاشكاليات المطروحة (اهمها تراكم القضايا).
وفي هذا السياق اذكر اني اطلعت منذ مدة على تقرير (46 صفحة) منشور للعموم بتاريخ 22 فيفري 2017 يتضمن جملة الاشغال المنبثقة عن لجنة التفكير حول اصلاح محكمة التعقيب الفرنسية المحدثة من قبل رئيسها الاول. ويمكن ان نشير على سبيل المثال الى ما يقترحه التقرير من اصلاح ثلاثي الابعاد يتعلق بالمعالجة الداخلية للطعون وتعليل القرارات ودور النيابة العمومية.
وفي هذا يقترح التقرير اولا ارساء نظام من شانه ان يطور طريقة المعالجة المتبعة للطعون المقدمة وذلك عبر مسالك اكثر وضوحا. وهو ما يقتضي ارساء سياسة قضائية جديدة تعمل بصفة مسبقة على مراقبة الملفات وفرزها. ويمكن الاتجاه الى معالجة اقل تعقيدا للقضايا البسيطة وذلك عبر مسلك قصير يؤدي الى الرفض دون تعليل خاص.
كما يقترح ثانيا جعل قرارات محكمة التعقيب اكثر وضوحا واقرب للفهم فضلا عن السعي الى نشرها بين العموم.
ويقترح التقرير اخيرا اعادة النظر في مختلف الادوار الموكولة للفاعلين في الاجراءات القضائية وخصوصا اعضاء النيابة العمومية.
ويمكن ان نقرا في ثنايا هذا التقرير عرضا وافيا وتفسيرا مفصلا لجملة الاقتراحات التي بلغت سبعين اقتراحا.
وفي ضوء ذلك، هل يمكن ان نسكت في حين يجب علينا ان نتحرك، من اجل الصالح العام، من اجل محكمة التعقيب ؟!