تدوينات تونسية

قد يكون فقط… طفلا حزينا!…

عبد اللطيف علوي
كانت بدايات الرّبيع… ولم يكن في البيت شيء يوحي بأنّ أمّي ستعود قريبا. انتظرتها أنا الطّفل الّذي لم يتجاوز التّاسعة أكثر من عشرين يوما مرّت مثقلات بالوحدة والحنين والحيرة والصّمت، أبي يقول إنّها في المستشفى بتونس… أنا لم أر المستشفى في حياتي، ولا أعرف عنه سوى أنّه مكان يخرج منه الأموات أكثر ممّا يخرج منه الأحياء، خالي منوّر وخالي صالح وجارنا مصطفى وجارتنا صالحة، جميعهم تناقل الجيران خبر دخولهم إلى المستشفى، ثمّ اسودّت سماء القرية وأمطرت دمعا يوم خرجوا منه نعوشا على الأكتاف، وحتّى الّذين سمعت أنّهم خرجوا أحياء، لم تمرّ أيّام حتّى شيّعهم الكبار بالعويل والنّواح.
حين أعود من المدرسة، أجد أبي ملتصقا بجدار الحوش يدخّن في صمت، ويركل الوقت بقدم عرجاء، فلا يكاد يتزحزح، أسأله متى تعود؟ فيجيبني: قريبا إن شاء الله، لكنّ هذه “القريبا” كم كانت بعيدة وطويلة ومجحفة… لا تأتي أبدا رغم أنّ الشّمس أشرقت كثيرا بعدها، وغابت كثيرا دونها…
دخلت إلى القسم وانزويت كعادتي في ركن آمن، فلم تكن بيني وبين معلّم الرياضيات مودّة ولا اهتمام، كان رجلا مغلقا كباب زنزانة، بوجه قاس حادّ الملامح، وشفتين غليظتين وأنف متعجرف، وكان صوته الجنائزيّ الغليظ يصيبني بالصّمم والعمى والخرس بمجرّد أن يبدأ في الدّرس…
يومها شعرت بأنّ رأسي ثقيل، أثقل من أيّ شيء تعلّمت أن أصفه حتّى ذلك اليوم، جفناي مشدودان إلى أسفل بسلاسل كنت أشعر أنّها تخرج من فم المعلّم مباشرة، وعقلي غائم وغريق، غريق في قاع بئر… أرفع رأسي فيسقط ثانية وأغرس مرفقيّ على الطّاولة لأسنده فيرتخيان ويسقطان… وجه أمّي يطلّ عليّ من خشب الطّاولة، وذراعاها ينفتحان أمامي، أستسلم بانتشاء لذيذ لسلطان النّوم وهو يسحبني بهدوء إلى حضنها ويمكر بي مكرا جميلا…
فجأة، انتفضت على صراخ المعلّم وهو يضرب الطّاولة بكفّ يده:
ــ نائم!! … طبعا نائم!… حمار مثلك ماذا يعرف غير العلف والنّوم. اخرج إلى السّبّورة.
خطوت متعثّرا في محافظ زملائي وفي ضحكاتهم السّاخرة وفي غمزاتهم، وسحب سيّدي من محفظته مسطرته الحديديّة ذات الصّيت المرعب في كامل المدرسة، وراح يضربني حتّى كاد قلبي يتفتّت وجعا، ثمّ ناولني العصا وأمرني بأن أحملها إلى سيدي “الآخر” في القسم المجاور كي يضربني هو أيضا على فعلتي الشّنيعة…
سرت إليه تقتلني المذلّة، مذلّة أن أتعرّض للضّرب أمام تلاميذ القسم الآخر… وخاصّة أمام جارتنا مريم الّتي لا تشبه أحدا من العالم… لم أكن أدرك ما هي الجريمة الّتي ارتكبتها كي أستحقّ كلّ ذلك العذاب، أنا سقطت على الطّاولة دون إرادتي فما الّذي يجعل الأمر كبيرة من الكبائر الّتي تستحقّ الجلد والإهانة… كان الأمر أقسى ممّا أحتمل… طرقت الباب ودخلت ورأسي يتدلّى بين كتفيّ كالمسيح المصلوب، مددت إليه العصا صامتا، ومددت يدي، كأنّني أمدّها إلى الموت لأبتلعه…
سألني:
ــ هل أرسلك سيدك “فلان”؟ ماذا فعلت؟
غمغمت بصوت حرصت على أن لا يسمعه الجالسون في الصّفّ الأوّل، وكانت عيونهم قد امتدّت وآذانهم قد اتّسعت كلاقطات عملاقة تترصّد أيّ أثر للحياة على الكواكب البعيدة بملايين السّنوات الضّوئيّة.
ــ رآني نائما في القسم.
ــ ولماذا نمت؟
ــ لا أعرف سيّدي… غلبني النّوم فنمت.
نظر إليّ بعطف غسل قلبي، صمت قليلا كأنّه يقول في نفسه أشياء، ثمّ قرّبني إليه ومسح على شعري وقال:
ــ حسنا… في المرّة القادمة، استأذن معلّمك واخرج كي تغسل وجهك وتفرك عينيك جيّدا حين يداهمك النّوم، هل اتّفقنا؟
رفعت رأسي وأومأت موافقا، وخرجت عائدا إلى قسمي وقد نسيت المسطرة، وقبل أن يسألني معلّمي عنها، رأيت سيّدي “الآخر” يقف في الباب ويناديه، ثمّ يهمس إليه بكلمات، فيصمت ويعود إلى الدّرس دون أن يسألني عمّا حدث.
اليوم صرت كلّما رأيت في القسم أحد التّلاميذ غافيا أو نائما، أتذكّر تلك الحادثة وفي القلب وردة وشوكة…
يتفطّن التّلاميذ إلى أنّ أحدهم قد أرخى رأسه على الطّاولة ويهمّون بالضّحك أو التّغامز، فأشير إليهم برفق أن يحترموا زميلهم، وأن لا يقسوا في الحكم عليه، وأن لا يشعروه بأيّ شيء حين يستيقظ… قد يكون مريضا أو متعبا أو… حزينا… أخبرهم أنّنا جميعنا ضعفاء بقدر قوّتنا وأقوياء بقدر ضعفنا…
أتركه يغفو قليلا ونواصل الدّرس، وحين يستيقظ يتلفّت بحرج شديد حوله، ويرفع رأسه إليّ، فيجد الجميع منشغلين عنه بالدّرس، يفرك عينيه جيّدا ويثبّتهما في السّبّورة.
همسة إلى السّادة المربّين:
التّلميذ الّذي ينام في القسم قد لا يكون طفلا كسولا… قد يكون فقط… طفلا حزينا!…

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock