القوميّة العربيّة في سوريا ظهرت وفيها تموت
صالح التيزاوي
ربّما هو مكر التّاريخ، أن تشهد سوريا نهاية القومية العربيّة كما شهدت مولدها ونشأتها على يد منظّريها من أمثال “ساطع الحصري”.. وربّما هي النّهاية الحتميّة لحركة سياسيّة واجتماعيّة تأسّست على العنصريّة، ولمّا أتيح لها أن تحكم، أقامت نظام حكمها على البطش. حيث بلغت الأيديولوجيا القوميّة أعلى أشكال العنف مع آل الأسد وهو ما يؤذّن بغروبها لتبدأ عمليّة تجديد للفكر القومي على أسس: الحرّيّة والمواطنة والتّنوّع الفكري والثّقافي والتحرّر من الشوفينيّة البغيضة.
لقد استندت فكرة القوميّة العربيّة من النّاحية النّظريّة إبّان ظهورها في كلّ من سوريا ولبنان إلى إحياء المشاعر العربيةّ المشتركة، والإيمان بأنّ الشّعب العربي شعب واحد من المحيط إلى الخليج في مواجهة سياسة التّتريك والغطرسة التي سلكها الأتراك تجاه العرب. استغل الإستعمار البريطاني نقمة بعض القادة العرب على الأتراك وأوهمهم بأنّه سيساعدهم على تحقيق أحلامهم القوميّة في الإنفصال عن الدّولة العثمانيّة، بعد التّاكّد من أنّ ثورة “الشريف حسين مكّة” خالية من المضامين الإسلامية. تماما كما أوهمنا “القومجيّون العرب” في العصر الحديث أنّهم سيحقّقون وحدة العرب من المحيط إلى الخليج وجنّدوا لذلك إعلاما مؤمّما يشرف عليه العسكر وتديره نخب مؤدلجة “مليشيات قلميّة” تعتقد: “أنّ لكلّ عصر نبوءة وأنّ القوميّة العربيّة نبوءة هذا العصر”.
ولكن “المشروع القومي” شهد تراجعات خطيرة منذ إطلاق وعوده وظلّ يعرف أقسى درجات الإنحدار: حيث تخلّي القوميّون عن فكرة الوحدة الإندماجيّة لاستحالة إخراجها إلى الواقع واستعاضوا عنها بفكرة التّكتّل الإقتصادي على نحو ما هو واقع في الإتّحاد الأوروبّي. لينتهي “الحلم القومي” في عهد بشّار الأسد إلى الإكتفاء بإنقاذ راسه وطائفته العلويّة. لا جدال أن الأيديولوجيا العروبيًة في مأزق خاصّة بعد موقفها المخزي من الثّورات العربيّة وهي آيلة إلى السّقوط لا محالة بسبب انغلاقها، وبسبب مراهنتها على الإنقلابات العسكريّة، ولكونها في جوهرها عقيدة باطشة لا تتّسع لقيم العصر. ولكونها أقصت الإسلام عن جميع معارك الحياة: معركة المواطنة والحرّيّة ورعاية التنوّع الإنساني: فكرا وثقافة وأعراقا حيث يعتبر ذلك كلّه من نقاط القوّة في الإسلام.
إنّ التّجربة القوميّة منذ حكم عبد النّاصر والقذافي وحافظ وانتهاء ببشّار الأسد تختزل حكاية أيديولوجيا لمّا حكمت أقامت نظام حكمها على البطش. من الواضح أنّ الرّفاق أخطؤوا طريقهم إلى الوحدة وإلى الإشتراكيّة معا، كما أخطؤوا طريق التّحرير، غير أنّ المشاعر الجميلة: الإيمان بأنّ العرب أمّة واحدة، زادها الإسلام تميّزا، والمشاعر العربيًة المشتركة والإيمان بوحدة المصير، تلك المشاعر الجميلة لن تموت، وإنّما تحتاج إلى انبعاث جديد لا يغفل أهمّيّة الحرّيّة والمواطنة كشرطين أساسيين لعمليّة التّحرير والوحدة مهما كان شكلها. وتعطي دورا أكبر للإسلام في معارك الامّة المستقبليّة. ولن يكون ذلك متاحا للقوميين إلّا إذا تحرّروا من أسر “الصّراع النّاصري الإخواني” ووضعوا حدّا للإلتفات إلى الوراء، لأنّ الأفكار التي لا تتّجه إلى المستقبل مصيرها الموت.