العقل الباجي أسير قضايا عصر الراديو
فوزي الطلحاوي
الرّجعيّة الدستوريّة البورقيبيّة في التّشريع
ما بين دستور 1959 ودستور 2013 إثنتان وخمسون سنة، مرّت تونس خلالها كسائر دول العالم، بتحوّلات ثقافيّة و سيايية واقتصاديّة عميقة، فمن مرحلة الاستقلال الأولى، حيث الحزب الواحد والراي الواحد والمخاطب الواحد والسامعين جمعا بصيغة المفرد، والزعيم الأوحد الذي صفّى خصومه فصاحة ومكرا وكاريزما وشرعيّة شعبيّة، زمن الراديو، ومن يمتلك وقتها الراديو ؟
في هذه المرحلة كانت الدولة الوطنيّة كلاًّ على الدولة المستعمرة في كلّ احتياجاتها، فكان الانبهار بقوة المستعمر وتشريعاته كبيرة جدا، ولنا ان نعود إلى نصوص الرحالة والشيوخ الذين زاروا باريس اول مرة من احمد بن أبي الضياف في تونس إلى رفاعة الطهطاوي في مصر والذي لخّص رحلته وقتها في كتابه الشهير “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” ثمّ جاءت مرحلة السوربون والحيّ اللاتيني حيث كان يقطن الطلبة العرب الذين التحقوا بالجامعات الفرنسية لمواصلة دراستهم ومنهم الحبيب بورقيبة وعلي البلهوان والمسعدي بعد ذلك من تونس القائمة طويلة، تلك النخب هي التي مثلت جيل تّأسيس الدولة الوطنيّة، ولن تلوم اقتداء المغلوب وقتها بالغالب في احتذاء النموذج وخاصة نموذج الحكم والدولة والمجتمع، فكان نظام الحكم تقليدا اعمى للنموذج اللائكي الفرنسي، في تحديث قصريّ كانت تداعياته على الفرد والأسرة جليّا، وإن لا نغفل ما حققه في مجال التعليم والصحة الإنجابية والتضامن الاجتماعي من مكاسب إلا أنّ فشله في اختيار نظام الحكم وفي التصوّرات الثقافية وفي مناويل التنمية كان جليا وما الصراع البورقيبي اليوسفي الذي نشب مبكّرا في جسد الدولة إلا صراع نموذجين احتماعيين ونظامين سياسيبن اكثر منهما صراعا بين زعيمين، ولمّا آل الأمر للزعيم الحبيب بورقيبة اختار أعتى الأنظمة اللائكيّة نظاما سياسيا ومجتمعيّا، وصفّى كلّ صوت معارض له ووسمه بالتهم نفسها التي مازال ينعت بها الخصوم السياسيون وشيوخ الإسلام: الرجعية والانغلاق والتعصّب…
تلك أمّة قد خلت، فلِمَ يسعى العقل الباجي إصرارا إلى العودة بنا إلى قضايا عصر الراديو، قضايا الأحوال الشخصيّة وحريّة المرأة وصراع الأضداد الذي استثمر فيه العقل البنعليّ العسكري الاستبداديّ استثمارا خاسرا؟؟؟ هذه قضايا من المفروض أنّه قد حسمها دستور 2013 بتشريعه لحريّة الاختيار وحريّة المعتقد والضّمير.
إنّ رجعيّة العقل الدستوري هي التي أملت إثارة قضايا مفتعلة ومسقطة إسقاطا ظلما وتجنّيا على جيل غير الجيل وعلى عصر غير العصر، فهي فضايا لا تمتّ لهذا الجيل بصلة، هذا الجيل الذي طحنته العولمة فضاعت ملامحمه وضاعت شخصيته وطُحِنت أحلامه التي أضحت أكثرها ماكثة في الضفة الثانية من المتوسّط، فهو لم يعش مثل الكهول والشيوخ على المدائح والأذكار وخطابات الزعيم وسباحته في شاطئ صقانص ولا على نظاراته فأكثر هذا الجيل لم يعرف “المسجّلة” فأغلبه جيل “الولكمان” و”الديسكات” و”السيديه” والفلاش ديسك والبرمجيات الحديثة والحال أنّ السيّد الرئيس ما يفتأ يستدعي شخصية الزعيم ونظارات الزعيم وسعيدة كراج تستدعي دور الراحلة سعيدة ساسي، وعامة الشعب في مكان آخر وزمان آخر وفكر غير الفكر !!!
إنّ ضريبة التصويت الناجع كانت باهضة خاصّة على الشّباب الذي هجر السياسة وأهلها و”كفر” بالشّأن العام من هذه الصبيانيات التي ظلّ لسبع سنوات يعيش على وقعها وإيقاعها؛ ففرّ إلى عالمه المحبط فانغمس في المخدرات والرذيلة والإجرام وانطوى على نفسه معلنا القطيعة التامة مع ما نقول ونكتب ونشرّع.
ختاما، لقد أجهز الحكام المنتخبون على بقايا الأمل في غد أفضل، ولكنّ الخشية الأكبر اليوم على مستقبل الوطن ووحدة المجتمع والسلم الأهليّة.