المجال العمومي وإنتاج الديمقراطيّة في تونس
عبد الله الزين الحيدري
(الجزء الأوّل)
حين ازدهرت، في تونس، سياسة جلب الخبراء الإعلاميين من أوروبا وأمريكا لتطوير عمل المجال العمومي الميدياتيكي، والنهوض بمستوى الصناعة الإعلاميّة شكلا ومضمونا، خصوصا إبّان ثورة 17 ديسمبر-14 جانفي 2011، كان يطفو على السطح الاجتماعي والثقافي خطاب إعلامي ينبض بإرادة مثيرة، متصدّية للشعارات التي رُفعت في الثورة، المطالبة بالكرامة والحريّة والعدالة والتنمية، بما يشير إلى وجود خلل كبير في النظام الإعلامي، وبالتالي في النظام الثقافي برمّته، إذ كيف نفسّر تراجع الأداء الإعلامي وانحدار مستوياته الفكريّة والأخلاقيّة مقابل الجهود التدريبيّة والتعليميّة المبذولة والأموال المرصودة لتحسين صناعة المضامين.
لقد نشأ الإعلام في تونس، كما في سائر الدّول العربيّة، وكبر في ظلّ “وصاية الدولة الأبويّة المتغلغلة بفائض سلطاتها في كلّ دواليب المجتمع. فالمجال العمومي الميدياتيكي هوّ دون أدنى ريب (ملك من أملاك الدولة) وهو الحامل السّياسي والإيديولوجي للفاعلين في السّلطة، بحيث لا يملك بصيرة في العمل تجعله يخاطب المجتمع كما ينتظر منه ذلك المجتمع، أو كما يقتضي حال الارتقاء الاجتماعي والحضاري، إنّما البصيرة الضابطة لوظيفته، وهو لا يملكها أيضا، هيّ التي تقوده إلى مخاطبة المجتمع بما يرضي السّلطة السياسيّة. لقد ظلّت هذه الوصاية، على امتداد عقود تحدّد له زوايا الإدراك في التعامل مع قضايا الشّأن العام، وتزوّده بذخيرة بلاغيّة صالحة لمجابهة كلّ المشكلات الاجتماعيّة ومعالجتها. وتاريخ تونس الحديث حافل بالأزمات الاجتماعيّة والسّياسيّة والحركات الاحتجاجيّة التي أدّى فيها الإعلام دورا حاسما في احتوائها وإنكار أصولها، بل وصل الأمر في العديد من الحالات إلى تخطئة المجتمع بإقامة الدلائل الميدياتيكيّة المصنوعة في مخابر السلطة السياسيّة، مثل ما حدث قبل وأثناء أحداث الخبز في تونس سنة 1984. وصورة ذلك، هوّ أنّه “قبل الإعلان رسميّا عن قرار الزّيادة في أسعار الخبز والعجين، شرعت القناة الحكوميّة التلفزيونيّة، آنذاك، في عرض مستمرّ لملامح الإسراف والتبذير للخبز، “السّارية” في المجتمع التونسي، وذلك عبر سلسلة من اللّقطات الإخباريّة التلفزيونيّة الكبيرة والقريبة، لقطات تكشف بقايا الخبز في الحاويات. وبما أنّ اللّقطة الكبيرة أو القريبة لا تبرز سياق الموضوع، فإنّه من الصّعب، أثناء متابعة القصّة الخبريّة، التفطّن إلى المواطن الحقيقيّة لفعل التبذير. فالبلاغة التلفزبونيّة المتمثّلة في إخفاء السّياق، إنّما تمّت استجابة إلى مستلزمات الخطاب السّياسي القاضي بترسيخ فعل التبذير في أذهان التونسيين لكي يتمّ تمرير قرار الزيادة في أسعار العجين بمرونة فائقة وبلا شغب. وبمجرّد صدور قرار الزيادة ودخوله حيّز التطبيق في 1 جانفي 1984، ارتطم التونسيون بوجود واقعين متضادين :
– واقع ميدياتيكي يختزل الإسراف والتبذير.
– وواقع سوسيولوجي ينفي الواقع الميدياتيكي. والهوّة بين الواقعين كانت سببا فوريّا في تدهور
السّلم الاجتماعية”.
ومن المفارقات المثيرة في ما حدث، هوّ أنّ المجال العمومي الميدياتيكي الذي صنع حتميّة الزيادة في أسعار الخبز والعجين وعمل على إشاعتها، نجده، في الوقت ذاته، قد عمل على إبطالها بعد يومين فقط من دخول قرار الزّيادة حيّز التنفيذ. وبات من المألوف في السياسة الإعلامية إنتاج المعضلات وحلّها بما يناسب مزاج الفاعلين في السلطة. ولهذا التضادّ وجه دستوري. فالدستور التونسي المؤرّخ في جوان 1959، نصّ بوضوح في فصله الثامن على حريّة الفكر والتعبير والصّحافة والنشر… ولكنّه سمح، في السياق ذاته، “للمشرّع التدخّل لضبط ممارسة هذه الحريّة” ممّا يفسّر مقدار الطواعيّة التي تجعل دفّة الإعلام بيد السلطة السياسية، وتحوِّلُ المجال العمومي الميدياتيكي إلى نظام تحكمه المصالح السّياسيّة لضمان استمراريّة الدولة وأمنها.
فموضوع الشأن العام ليس مطروحا كجوهر أساسي وكبعد حيوي استراتيجي، في العمل الحرّ والمسؤول لوسائل الإعلام العمومي، لأنّ الشأن العام بحدّ ذاته، هوّ ما تقرّره السلطة السياسيّة. ثمّ إنّ الصّورة الذهنيّة التي يحملها عامّة النّاس عن المؤسّسة الإعلاميّة، آنذاك، كانت مجرّدة من صفات المجال العمومي الميدياتيكي بالمعنى الكانطي للكلمة، بل إنّها كانت نقيض ذلك تماما، إذ يُنظر للميديا الجماهيريّة على أنّها جهاز من أجهزة أمن الدولة، وأنّ العاملين بهذا الجهاز من إعلاميين واتصاليين، مكلّفون بإخبار المجتمع عن أحوال الدولة “المزدهرة”، وتلك هيّ مهامهم الأساسيّة، ولا يخبرون الدولة عن أحوال المجتمع، فأحوال المجتمع تقرّرها الدولة السّياسية، وتضع التوصيف المناسب لها في “المنابر” الإعلاميّة التي تتولّى نشرها وبثّها بنمط من العموميّة الدعائيّة التي لا تجيز النقاش والتفكير في قضايا الشأن العامّ. وعندما تتحوّل المنابر الإعلاميّة في المجتمع إلى فضاءات دعائيّة موجّهة، مجرّدة من النقد ومن الفعل التواصلي كوسيط بين الدولة والمجتمع، تلجأ الدولة إلى الحلول الأمنيّة لفض الخلاف واحتواء حركات الاحتجاج كلّما اقتضى الأمر ذلك. وتفسّر أحداث 26 جانفي 1978 التي جدّت في تونس، والمعروفة باسم “الخميس الأسود”، كيف أنّ احتكار الدولة للمجال العمومي الميدياتيكي وإقصاء السّلط المتشكّلة من الديناميّة الاجتماعيّة، السياسية والاقتصادية والثقافبّة، إقصاؤها من لعبة النقاش والاستخدام العمومي للعقل في قضايا المجتمع، قد أدّى إلى اندلاع مظاهرات صاخبة ومصادمات دامية بين المدنيين وقوات النظام العام وفرق من الجيش أسفرت عن سقوط مئات الجرحى والقتلى.
لم يكن متاحا للإعلام العمومي الميدياتيكي آنذاك حتى القيام بوظائفه الإخباريّة الأساسيّة القاضية بمتابعة الأحداث وتغطيتها إعلاميّا على غرار ما حدث في أحداث ماي 1968 حين تولّت الإذاعة العموميّة الفرنسية في تلك الفترة نقل الأحداث الدامية في الشارع الفرنسي في الليلة الفاصلة بين 10 و11 ماي من العام ذاته، والمعروفة بليلة المتاريس (La nuit des barricades). لقد اقتصر السّرد الميدياتيكي على اتهام المتظاهرين من عمال وطلاّب الجامعات، وتلاميذ المدارس الثانويّة، بالفئات المنحرفة والمجرمين، من دون الإشارة إلى استخدام الرّصاص الحيّ ضدّ المدنيين العزّل، أو الحديث عن عدد القتلى من المدنيين، ومن دون الإشارة أصلا إلى أسباب الأزمة الحقيقيّة التي قاد أحداثها الاتحاد العام التونسي للشغل للمطالبة بإعادة النظر في السياسة الاقتصادية والعدالة الاجتماعيّة.
لم يتغيّر أسلوب المعالجة الإعلاميّة للأزمات في تونس، حتى عند اندلاع ثورة 17 ديسمبر 2010 حين خرج آلاف التونسيون يوم 18 ديسمبر 2010 في مظاهرات حاشدة مندّدين بتفشي الظلم، وتفاقم الفساد في أوساط النظام الحاكم. وبالرّغم من التغطية الواسعة للأحداث عبر الميديا الاجتماعيّة، فإنّ الإعلام العمومي استمرّ في تخطئة المجتمع واصفا ما يحدث بالانحراف القيمي والأخلاقي.
مركز دراسات الوحدة العربيّة/ بيروت/ جويلية، 2017.