أزمات الشرق الأوسط في خدمة مشروع الدولة الكردية
ليلى الهيشري
قد ينطلق المشروع من نفحة وجود، فينبثق الأفق مشرقا لحلم طالما رافق من عاش الاضطهاد بسبب هويته او لونه او عرقه او انتمائه الديني، هذا هو حال الطائفة الكردية منذ العصر العثماني، في ظل حالة من التشتت أدت الى بروزهم للعالم كأقليات تركية وسورية وعراقية متفاوتة الأهمية والوزن الديمغرافي والسياسي حيث جاء في تقرير صادر في جريدة ترك براس، أن عدد الاكراد في الشرق الاوسط يقدر بين 30 و35 مليون نسمة حيث قدر عدد الاكراد العراقيين حسب ارقام وكالة الاستخبارات الامريكية وحسب ارقام الوكالة الدولية لحقوق الاقليات تتجاوز الـ 5 ملايين نسمة بينما جاء في تقرير اخر لمنظمة كوندا ان اكراد تركيا يتجاوزون في عددهم 13 مليون نسمة.
اكتسب الاكراد منطقة حكم ذاتي بفضل معاهدة سيفر المبرمة سنة 1920، التي تم بموجبها اعادة وضع خارطة جديدة للدولة العثمانية الضعيفة والتي خسرت الكثير من اراضيها، ليتم التراجع بعد ذلك عن تلك المعاهدة بسقوط الامبراطورية العثمانية وانهيارها سنة 1922، وبموجبه تم تقسيم المنطقة التي منحت للأكراد لتتحول الى مناطق حدودية تعود لثلاثة دول وهي تركيا، سوريا والعراق، وهو ما أدى الى ظهور 4 مناطق للأكراد، عرفوا بأكراد العراق، اكراد تركيا واكراد سوريا فضلا عن اكراد إيران.
ورغم قدرتهم على فرض وجودهم السياسي في الدول التي تتمتع في هيكلتها الاجتماعية بالنمط الفسيفسائي، لم يثنهم ذلك التميز الديمغرافي عما في خاطرهم من حلم أكبر يكتمل بتأسيس دولة كردية مستقلة على مساحة تجمع اجزاء متفرقة من تركيا، العراق وسوريا، هذا ما حالت تركيا دون حصوله طيلة فترة الحرب السورية.
فقد اعتبر أحد المحللين السياسيين ان الاكراد سيتحالفون مع الشيطان إذا كان سيساعدهم في بناء هذه الدولة وهو أمر قد تستسيغه عديد الدول المتحالفة مع اسرائيل واهمها الولايات المتحدة الامريكية، وليس بالأمر المستبعد، خاصة مع ما شهدت الآونة الاخيرة من تضامن للشعب الكردي وخاصة جماعاتها المسلحة في المنطقة عبرت عنه الحكومة الامريكية بدعم عسكري ولوجستي لأكراد سوريا واكراد العراق.
اكراد سوريا وتركيا: ورقة الضغط الموجهة ضد القوة التركية المتنامية في المنطقة
تفطنت تركيا لما يحاك في كواليس الشأن الدولي والذي لا يصب في مصلحة أمنها الحدودي بل يتجاوز الى أبعد من ذلك عبر النيل من سيادتها، وهي ليست بالصراعات الحديثة التي تديرها تركيا ضد اعدائها، اذ يعود ذلك الى عقود من المواجهات مع المنظمات الكردية.
تعكس الاحداث الحالية، شاهدا على تاريخ من التناحر السياسي والعسكري الذي تعيشه الحكومة التركية مع حزب العمال الكردي، ولقد تفاوتت الاحداث بين معارضة حرة وعمليات ارهابية في كامل التراب التركي، وفي موجة الكر والفر بين الطرفين عجز حزب العمال الكردستاني عن مضاهاة الرفض التام لبناء تلك الدولة على حدود تركيا، لما تعتبره هذه الاخيرة في تصريحاتها الرسمية مطالب غير مشروعة لأنه يطال سيادة تركيا، فمن الجلي ان التفويت في بعض من الحدود الشمالية التركية لا يعد أمرا هينا ولا محل نقاش من أساسه.
وبعد قيام الثورة السورية واستطالة أمد أزمتها من طرف القوى العالمية التي اثارتها وأقصد بذلك روسيا وإيران والولايات المتحدة نفسها التي لجأت الى الاستانة لمحاولة إيجاد حل جذري لهذا الصراع الضبابي في ظل متغيرات لا تنفك تعيد كل الحلول المقترحة الى مربع البداية وهو ما أرهق حتى صناع اللعبة.
حيث تحولت الساحة السورية إلى جبهة نار ودمار مفتوحة على كل الدول المجاورة والتي سببت لها طيلة هذه الفترة خسائر لا تعد ولا تحصى منها ما عانته تركيا من هجمات ارهابية اوزعت مجملها الى الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني المدعوم حديثا بالمقاتلين الاكراد في سوريا، ولقد اعتبرت ان الاكراد الاتراك اصبح لهم مداس في الحدود السورية تضامنا مع وحدات حماية الشعب الكردي المرابطة في شمال سوريا والتي تتمتع بدعم قوي من طرف الولايات المتحدة الامريكية، وبذلك شكلت هذه القوة المحورية الموجهة ضد انقرة ضغطا مضاعفا قد يشكل مزيدا من المخاطر، قد يثقل كاهل الحكومة التركية المنشغلة دائما بتقلبات شأنها الداخلي، خاصة مع التعديلات الدستورية التي لجأ اليها أردوغان و زادت العلاقات توترا مع المعارضة في الساحة السياسية التركية، ولن تكون قرارات الولايات المتحدة الامريكية بتسليح وحدات الحماية الشعبية السورية وغيرها من المقاتلين الاكراد في سوريا، إلا ضغطا متزايدا على حكومة أنقرة التي تعتبرهم حسب تصريحات ممثليها، جماعات إرهابية واعداء تركيا.
وردا على اتهامات انقرة للبيت الابيض بتدعيمها لأعداء الدولة التركية، صرحت المتحدثة باسم البنتاغون دانا وايت ان القرار موضوع التوتر يصب في مصلحة موحدة تخدم الامن الحدودي لتركيا ايضا، لأن الاولوية تكمن في القضاء على تنظيم داعش الذي استعصى على كل القوات النظامية وغير النظامية وفي توحيد القوى المقاتلة ضد داعش، يمكن التخلص من هذا التنظيم الدموي بدعم وحدات حماية الشعب الكردي باعتبارها الجماعة الاكثر قدرة على مواجهة داعش في الرقة. بينما تخفي أمريكا حقيقة مخاوفها المتمثلة في غياب بديل حقيقي للأسد في ظل وجود قوي لجبهة النصرة في سوريا وتمكنه من بسط نفوذه في مناطق كبرى منها. وسعيا نحو استيعاب كم الغضب الذي بدر عن الحكومة التركية، وافق العم سام مؤخرا، على قيام تركيا ببعض العمليات العسكرية التي استهدفت بعض المناطق الكردية في الحدود السورية التركية دون شروط كبادرة طيبة تجاه حليفتها التقليدية.
تداعيات الدعم الامريكي لإقليم كردستان العراق على المنطقة:
اما بالنسبة لأكراد العراق، فقد شهدت الاحداث الاخيرة بوادر تعزيزات عسكرية ولوجستية سلمت الى الاكراد في العراق من طرف الحكومة الامريكية، هذا ما اسفرت عنه احدى تقارير وكالة التعاون الأمني التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” وأسفر هذا الدعم عن ابرام صفقة لبيع أسلحة ومعدات بقيمة 295.6 مليون دولار لوحدات البشمركة الكردية التابعة لإقليم كردستان العراق. في توقيت مثير للريبة ترافق مع التصريحات الامريكية بإعادة النظر في موقفها من بقاء الاسد وتراجعها الرسمي والعلني عن تدعيم اكراد سوريا؟
وفي تساؤل مشروع من طرف أحد الصحفيين المصريين عماد عنان، الذي اعتبر أن الدعم الأمريكي المتواصل للأكراد سواء في العراق أو سوريا يضع العديد من علامات الاستفهام بشأن توجهات الخارجية الأمريكية تجاه المسألة الكردية خاصة أنها تؤثر سلبًا على حلفاء واشنطن في المنطقة، فلماذا تحرص واشنطن على تسليح الأكراد إلى هذا الحد؟
لم تدخر الحكومة الامريكية جهودا تذكر لتبرير موقفها الداعم للإقليم الكردستاني في العراق باعتباره الوسيلة الوحيدة المطروحة حاليا في مواجهة داعش، ذلك العدو الذي ينتقل بسرعة وبكل خفة مع كل حملة تدار ضده في العراق وكأننا في مواجهة عدو خارق او ربما من نسج الخيال فهذه هي حقيقة المواجهة مع داعش في العراق.
وأصبحت داعش تلك التعلة التي تستند عليها الولايات المتحدة او تتخذها مطية للوصول الى حقيقة تسليح الاكراد ليكونوا دعما لبقية الاقليات الواقعة في وحل الازمة السورية ومحط انظار القوة التركية التي تنتظر الفرصة الأفضل للقضاء على اكراد سوريا وشقهم العسكري، فلا يبقى لأكراد تركيا سوى العزلة والتراجع عن بناء تلك الدولة التي سببت للأمن التركي من الخسائر الكثير.
أما موقف الخارجية الايرانية، وهو ليس بالجديد فقد كان ضد أي محاولة لتقسيم العراق ومنح الاقليم الكردستاني الانفصال الذي تعمل الولايات المتحدة على تحقيقه بمساندتها المطلقة للأكراد، فقد صرح وزير الخارجية في تصريح حديث أن كردستان جزء لا يتجزأ من العراق وطهران تدعم وحدة البلاد، وهو الطريق الامثل لاستكمال مراحل بناء الدولة الكردية التي عجز اكراد تركيا واكراد سوريا عن تحقيقها حتى بمساندة من الولايات المتحدة الامريكية لعجزهم عن مواجهة قوة كتركيا.
قد تقودنا التساؤلات الى ما اشار اليه بعض المحللين العرب والأتراك في سعي أمريكي لتصور جديد للمنطقة تديره حسب مصلحتها من خلال البحث عن سبيل لقطع اوصال الشرق الاوسط محط اهتمام القوى الكبرى. وفي قراءة لكل العناصر المستجدة في الساحة السورية والعراق من جهة وفي منطقة مجلس التعاون الخليجي، تشير الدلائل إلى بعض المصداقية في التعاطي مع فرضية المشروع الاستراتيجي الجديد الذي يصب في خانة الدعم الامريكي لإسرائيل، وبعيدا على فرضيات المؤامرة والخيال العلمي الذي قد تتهم به العديد من التحليلات السياسية، يجب عدم التخلي على قدرة المثلث الامريكي الصهيوني السعودي في خدمة الدولة الاسرائيلية ولو على حساب كل العرب طالما يجدون لأنفسهم مصلحة مشتركة.
وعليه، تركيا أعلنتها صراحة، فلا مجال للتشكك في القوة الاقليمية لتركيا وتهديدها لبعض التحالفات التقليدية في عديد المناطق ولاسيما الشرق الاوسط. حدود تركيا وأمنها وسيادتها لن تسمح بأي حال من الاحوال أن يكون لكردستان مكانة في الشرق الاوسط الا اذا انشق الصف الخليجي والعربي ونحن بصدد رؤية بوادر من ذلك المشروع عبر ما تمر به منطقة الخليج من ازمة حادة ترى في ظاهرها مجرد زوبعة في فنجان ولكنها تعطي اشارات خطيرة بوجود تصدع في الصف الخليجي لا تعرف نتائجه بعد، خاصة وان قطر لم تكشف أوراقها بعد، وانها لم تعد تلك الدولة الصغيرة الغنية والخاضعة لمتطلبات التحالف الاقليمي الذي تنتمي إليه بل هي دولة اكتسبت من الحنكة السياسية ما يخولها لأن تغير لوحدها ما عجزت عنه العديد من القوى الدولية، وهو ما لم تستسغه المملكة العربية السعودية ومصر في محاولتهما استرجاع وزنهما السياسي المفقود في المنطقة عبر عملية استعراض عبثي للقوة من خلال جملة من المطالب التي تزيد من ادراك العالم بأنها قوى عاجزة وتابعة.