تدوينات تونسية

الحصار والاحتضار والانتصار !

بشير العبيدي
أقولها_وأمضي
قد نختلف مع قطر في سياساتها أو مواقفها. قد نرفض طريقتها في التعامل مع مختلف الأطراف. قد نعتبرها إمارة تؤدي دورا لفائدة الأمريكان. كل الناس تعرف أن ما تقوم به قطر من سياسات هو لخدمة مصالحها، كل هذا ممكن أن يكون موضوعا للنقاش. المسألة الآن مختلفة تماما بعد الحصار.
وذلك أنه بعد تخريب الثورات المصرية واليمنية والسورية والليبية وتهديد الثورة التونسية في وجودها، قامت دول (حصار قطر) بمنجزات جديدة سيكتبها عليها التاريخ في سجلّ التنكيل بمحاولات الشعوب التخلص من الاستبداد الصهيو-عربي البغيض. فبعد أسابيع طويلة من متابعة مشهدٍ بائس لسقوط مدوٍّ للمستوى السياسي لأنظمة الثورة المضادة، ها هي الحصيلة الثقيلة التي تحققت :
• أولا : الزعم بأن الأمر يتعلق بالإرهاب هو كذب بواح لسبب معروف وهو أن المجموعات الإرهابية بدأ ظهورها بقرار أمريكي وتمويل خليجي منذ حرب أفغانستان، وظهور منظمة القاعدة قرار أمريكي، وأحداث الحدي عشر من سبتمبر قام بها جمع ليس فيهم قطري واحد، بل كلهم من أنظمة الحصار، والإرهاب في العراق صنعه الأمريكان، والإرهاب في سورية قرار مشترك لأنهاء الثورة السورية وتفتيت العرب السنة وتقطيعهم إربا إربا، وهذا نراه عيانا الْيَوْم، إلا من أصيب بعمى الألوان. مسألة الحصار هي أنها بينت الوجه الحقيقي للعصابات الحاكمة في أنظمة العداء لثورات الشعوب السلمية، وهو وجه بان الآن على صورته المطابقة دون ماكياج، خالٍ تماماً من التزييف والتلميع ! إن جميع المليارات التي تم إنفاقها منذ عشرات السنين لصناعة صورة إيجابية للأنظمة المحاصِرة لقطر ذهبت هباءً منثوراً بسلوكها الأرعن. صورة الأنظمة المحاصِرة لقطر خسرت كثيراً وتلطخت بالسخف والغدر والانحطاط والمزاجية وارتهان القرار للسيد الأمريكي بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ. ولو أن قطر دفعت نصف ميزانيتها لتعرّي دول الحصار على حقيقتها لما استطاعت أن تفضح عُشر الحقائق التي فضحتها بها مواقف أنظمة الحصار تلك، وخصوصا أسلوبها المتعجرف والمتكبر والمتخلف في إدارة الأزمة، كلّ ذلك أمام أعين العالم الذي يضحك ساخراً على غباء وسخف ساسة العرب وأشباه مثقفيه !
• ثانيا : سقوط الصورة الدينية المزيّفة سقوطا سحيقا، وذلك بظهور فتاوى تحت الطلب كشفت الدور المخابراتي لعديد الوجوه المتاجرة بالدِّين الاسلامي، وانهيار إيديلوجيا طاعة ولاة الأمر، خصوصا وقد صدَّع هؤلاء آذان المسلمين أيام حكم مرسي في مصر والنهضة في تونس والعدالة والتنمية في تركيا والمغرب، زاعمين أنه ينبغي الحكم بما أنزل الله، فلما أفشلوا الثورات العربية وخربوها وفجّروها من الداخل و”دعشنوها” بعصابات جاهلة دموية، غابوا فجأة عن المشهد تماماً وذابوا نهائيا بمجرد تقلد الصهيو-دموي السيسي في مصر، فصار الأمر بقدرة قادر يدخل في باب (طاعة ولاة الأمر) وأذعنوا للصهاينة طاعة لله ورسوله، بينما هم كفروا بطاعة الله ورسوله وولاة الأمر أيام محمد مرسي ! وهذا السلوك المتاجر بالدِّين ذكّر بشكل لافت بدور قساوسة الكنيسة إبان الثورات الأوروبية، إذ وقفوا مع الأنظمة المستبدة مهددين من لا يطيع أولياء الأمور بالحرمان من الغفران ! وهذا السلوك الديني القروسطي قد جعل ملايين المسلمين تستفيق من السبات وتعرف ما كانت تجهل من هؤلاء المتاجرين بالدِّين !
• ثالثا : انكشاف فحش أشباه المثقفين الذين كانوا يكفرون بالدولة الثيوقراطية الدينية ويمقتون كل شيء يمتّ إلى الدين بسبب، فإذا بهم مع حصار قطر يقفون مع الدول الثيوقراطية ويدافعون عنها بالنفس والنفيس، لا بل هم في سورية مع الدولة الإيرانية الثيوقراطية الموغلة في الأيدلوجيا المذهبية، ويبذلون ما بوسعهم للدفاع عن مواقف تلك الأنظمة تحت يافطة الممانعة والمقاومة، وهذا لعمري من السقوط المدوي الذي يكشف حقيقة هذه النخب الزئبقية المزيفة التي تسببت في تأبيد التخلف بفكرها الغثائي العبثي الذي أظهر درجة غير مسبوقة من التهافت والانحطاط.
• رابعا : اتضاح التماهي التام والكامل والتلازم الآلي بين زعماء الثورة المضادة ودولة الصهاينة التي اعترف الجميع الآن -بما فيهم دولة الكيان- أنها تعاونت وتتعاون مع حكام الأنظمة العربية لإفشال جميع الثورات، وصارت طائرات نظام الإمارات العبرية تشارك في قصف غزة علنا، وقصف الليبيين دون حياء، والمساهمة في محاولة انقلاب تركية دون رادع، وتمويل مشاربه الاغتيالات السياسية دون خجل، وهذا كشف لذوي البصيرة العدو الحقيقي والصديق الحقيقي للشعوب، كما كشف الترابط الاستراتيجي والتناغم بين أنظمة الحصار والكيان الغاصب، بشكل علني ورسمي، بعد أن طغى زيف الشعارات لعشرات السنين وأوهم الكثيرين بكذبة أن الأنظمة العربية تحارب الصهاينة، فإذا بتلك الأنظمة هي سبب بقاء الصهاينة كل هذا الوقت !
• خامسا : انهيار منطقة التعاون الخليجي الاقتصادية، إذ تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ! فهذه الإمارات وعمان والكويت تقيم علاقات اقتصادية وسياسية واسعة مع إيران رغم احتلالها لجزر عربية وتهديد وجود جزر البحرين، وتستقبل القواعد الأجنبية غير المسلمة في أراضيها، ثم تطالب قطر بقطع العلاقات مع إيران وطرد القواعد التركية المسلمة من أراضيها ! فأي بغاء سياسيّ هذا !
• سادسا : اتضاح الهدف الأساس من كلّ هذه الرّهدنة السياسيّة وهو إسكات قناة الجزيرة ومن ثم الاستفراد بغزّة وفلسطين وإلحاقها بالأندلس الضائعة بسبب حكام كحكام دول الحصار والعار، وهم يظنون أن ذلك لا يتم إلا باستفرادهم بتزييف وعي الشعوب وتكميم الأفواه وغصب الناس على سماع وجهة نظر واحدة هي وجهة نظر أعداء ثورات الشعوب السلمية، التي تترجم وجهة نظر المستعمر الأمريكي وتوابعه وذراعه الصهيونية ! فكيف يقتنع ذو بصيرة باجتماع أشباه دول وإمارات الموز على هدف إغلاق قناة فضائية؟؟؟ ألهذه الدرجة تخيفهم قناة يعمل فيها طاقم عادي من الصحفيين لا لشيء إلا لِلَجْم الأفواه وغصب الناس على تجرّع إعلام الكذب والبهتان الذي يموّلونه بأنهار من الدولار ؟ أليس هذا إعلان فشل إعلامهم في استقطاب اهتمام الناس؟
• سابعا : حصول شرخ في صفوف المحاصرين بعد أن رفضت أوروبا وإفريقيا وآسيا الانجرار وراء نزق عدد من الساسة فاقدي الخبرة، منا اضطر أمريكا التي تمسك بتلابيب الأمر لإعطاء توجيهات بالكف عن الشغب والصخب والبحث عن حلول تفاوضية، فبان أن هؤلاء الساسة مأمورون، أمروا فخاصموا، ثم أمروا فسكتوا عن النباح المباح !
حين نعود إلى تجربة القرون الماضية ونتأمل تطوّر الأشياء، سنكتشف حقائق دامغة تدلّ على أن صيرورة التاريخ لا تعود إلى الوراء. لقد رفضت أنظمة العرب والمسلمين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر التأقلم مع التطورات العلمية والعقلية للثورة الصناعية، فتسبب ذلك في إسقاط دولة المسلمين العثمانية التي كانت تقف في وجه أطماعهم واستعمار العالم العربي والاسلامي كاملا ونهب ثرواته، ثم أذعنت الأنظمة والمجتمعات في النهاية على قبول التطور صاغرة وبشروط أعدائها. لقد رفضت الأنظمة والمجتمعات العربية والإسلامية فكرة إنهاء العبودية، ثم قبلتها مرغمة صاغرة. لقد رفضت المجتمعات والأنظمة فكرة حقوق الإنسان والحريات والمساواة، ثم قبلتها في النهاية بشروط أعدائها. حتّى طباعة القرآن الكريم في المطابع : لقد رفضت النخب طباعة القرآن في المطابع بذرائع واهية وتمت طباعة القرآن بعد خمسة قرون من تاريخ ظهور المطبعة، فتسبب ذلك في شحّ انتشار الكتاب وتخلف القراءة في الوطن العربي نعاني منه إلى الْيَوْم. الآن، ترفض الأنظمة الإذعان لمنطق حق الشعوب في اختيار حكامها بشفافية ونزاهة. وسينتهي بهذه الأنظمة المطاف أن تقبل بذلك مجبرة مرغمة، إما بقرار ثورات شعبية سلمية وإما بإملاء غربي حفاظا على مصالحهم. الثورات العربية ستنتصر لا محالة إني أرى ذلك في عيون جميع الشباب العرب الذين ألتقي بهم. لم يعد الوضع أبدا كما كان في السابق، والوعي يكتسح الشعوب بسرعة.
قضية حصار قطر ليست قضية خليجية بالمرة. إنها قضية شعوب تريد التخلص من حكامها الانقلابيين والملوك المتألهين، ويريد الطغاة والغزاة تأبيد الأنظمة الفاسدة من أجل مصّ النفط والغاز والثروات، لأنه من دون حكام طغاة لن يتم تأمين مصالح الغرب. ولو أن الحكام كانوا مختارين من طرف شعوبهم، لما تمّ تقديم جزية بخمسمائة مليار دولار مقابل حماية عروشهم. الرئيس الأمريكي عبر عن ذلك بكلمة : وظائف ! وظائف ! وظائف ! فرحا بتحقيق حلم أمريكي جديد هو نهب أموال النفط ليزداد الأغنياء عنى ويزداد الفقراء فقرا !
وأبغض أنواع الفقر هو فقر الفكر … وذلك حين تعمى البصائر فيرى بعض الناس العدوّ صديقا والصديق عدوّا !
شوال 1438
كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock