النّوّاحة والرّدّادة على قناة نسمة
منذ اندلاع الثورة التونسية وإطاحتها بالمخلوع وأنا أتساءل: ما سر بكاء عبير موسي وعويلها على المخلوع لقد فاقت في نواحها كلّ نائحات التّاريخ؟ هل أوجعتها الثّورة إلى هذا الحد بما ضيّعت لها من آمال ؟ أم تراه اليتم فعل بها الأفاعيل؟
بكت المخلوح ومازالت بحرقة الثكالى وبوجع الأيتام. وكأنّي بها الخنساء مع اتّساع الفروق: الخنساء كانت تبكي شقيقا، فارسا، شجاعا، كريما، أمّا الموسي فتبكي: لصّا، قاتلا، نهّابا للمال العام. لم يترك موبقة إلا أتاها. خلعه الشّعب لفساده واستبداده وعوض أن ترفع عليه قضية في إهمال عيال أرادت أن تركب موجة مقاومة الفساد لتحويل وجهة البوصلة من محاربة فساد العقود النوفمبرية إلى إثارة شبهات فساد محتمل يتعلّق بتمويل الأحزاب عموما ولكنها لا تذكر بالٱسم إلا حزبا واحدا. خطّتها واضحة وبيّنة: صرف الأنظار عن الفاسدين الحقيقيين وأخذ آخرين بالشّبهة ترذيلا للثّورة ولكلّ ما جاءت به من مكاسب شهد بها العالم كلّه برغم العراقيل التي زرعتها الثورة المضادة لاستعادة النّظام النّوفمبري بكلّ وقاحته وقبحه.
كما ركبت موجة الأزمة الخليجية لتحوّل وجهة البوصلة من مقاومة الإستبداد والإنخراط في معركة الحرّيّة والمواطنة إلى الإصطفاف خلف الدّول التّي تتزّعم الثّورة المضادّة في العالم العربي ومحاولة فرض سياساتها على الواقع التّونسي تحت ذرائع لا تخفى أهدافها. (تصفية الثورة والرّبيع العربي).
كيف يمكن لعاقل أن يصدّق تجمّعيّا في دعوى مقاومة الفساد، وقد جرّبنا عليهم الفساد وكانت الثّورة استفتاءا شعبيّا على فسادهم. القاصي والدّاني يعلم حجم الفساد الذي زرعه المخلوع وحزبه وشُعبه ونظام حكمه و”طرابلسيته” و”ليلاه” التي كان يجتمع حولها المصفّقون كالذّباب حول المزبلة تلقي عليهم خطبها فيما تكتفي الموسي بالتّصفيق أو بترديد أغنيتها المفضّلة “الله أحد والمخلوح ما كيفو حد” وتكتفي بتوزيع الأعلام على جمهور من النسوة لا نلومهنّ على صنيعهن لأنّ “الجوع كافر”. عبير الممثّل الشّرعي والوحيد للسّلفية الدّستورية والتّي احتكرت النّواح على المخلوع تطالب اليوم على قناة نسمة بفتح تحقيق عاجل وفوري في شبهات فساد تتعلّق بتمويل أحزاب وجمعيات خيرية. بداية هذا من أفضال الثّورة على البلاد والعباد وهو أمر لم يكن متاحا لا في عهد بورقيبة ولا في عهد المخلوع. كم هو جميل ورائع أن أصبحت المطالبة بالتّحقيق في شبهات فساد تتعلّق بالأحزاب الحاكمة أمرا ممكنا لا يكلّف الإنسان حياته أو عمله أو شبابه كما كان يحدث زمن المخلوع وذلك أمر لا أحد يستطيع إنكاره. لكن أن تأتي المطالبة بالتّحقيق في شبهات الفساد ممّن انتمى إلى حزب الفساد وما زال يجتهد لتبييضه، فهذا أمر في غاية الغرابة. كم هو مخجل ومقرف أن يطالب من تربّوا في أحضان الحزب الواحد بمقاومة الفساد. “ليس لمن كان ذيله من قشّ أن يلعب بالنّار”.
قالت الموسي ذات يوم مستفيدة ممّا أتاحته الثّورة من حرّيّة للجميع، مذكّرة بـ “فضائل التّجمّع” بأنّها كانت تحمل لفقراء تونس في برد الشتاء “البطاطن والفرارش” لتدفئتهم. أليس هذا دليلا كافيا (حسب زعمها) على عدم فساد المخلوع وأزلامه؟ نعم كان المخلوع يفعل ذلك، لكن بعد أن يستحوذ على المليارات من صندوق (26_26) فماذا يسمّى ذلك ؟
جدير بالتّذكير بأنّ الشعب التّونسي الذي ثار على الفساد وقدّم الشّهداء لذلك لا يدري أين تبخّرت تلك الأموال التي كان تجمّع الفساد يجمعها بالغصب والإكراه ويلقي بها في جيب المخلوع؟
حديث النّوّاحة ذكّرني بما قاله القذافي قبل أن تطيح به الثورة، بأنّه يكتب رواية عنوانها “الفرار إلى الجحيم” وقال بأنه ينوي التّبرّع بربع مداخيلها لفائدة الشّعب اللّيبي. فعلّق صحفي لبناني على هذيان القذافي بقوله: “من الغريب أن يتبرّع القذافي بمداخيل رواية يتيمة لا يعرف عن كاتبها أنّه روائيّ فيما ينفرد هو بنصف عائدات النّفط اللّيبي”. تلك هي طبائع الإستبداد واحدة، لا يختلف فيها المخلوع عن القذافي عن مبارك عن صالح عن بشار، لذلك فإنّ نهايتهم واحدة وإن اختلفت التّفاصيل وإن علا صوت الثّورة المضادّة.