“ولدتك… واقفة”
الخال عمار جماعي
“ولدتك واقفة..” حمحمت بها والدتك حين عُدّت إليها تغطّي عينيك الدامعتين وتمسح مخاطك بكمّ “القندورة” التي لا تلبس إلاّها بعد أن طردك أترابك من حلقة اللعب الخشن فيداك ضعيفتان كقصبة وأنت وقد وُلدت لأب مئناث، بكّاء كخُنفساء مبرقعة حمراء.. لم تفهم ساعتها ما معنى أن تلد المرأة واقفة.. وتخيّل رأسك الصغير المكوّر الموضوع بعناية إلهيّة على جسد هزيل، كيف تلد النساء.. وقلت لعلّهنّ يخترن الوضع كما يشأن.. حتّى ذهب بك الظنّ البريء أنّهن يستطعن أن يخرجن الأطفال من أجنابهنّ أو من أفواههنّ أو من أيّ مكان متاح.. المهمّ عندك أنّك لم تكن “قطعة حبل في مزبلة”.. وإن كنت لم تر في صحراء الرّتم والجرجير أيّة قمامة أو كُساحة.. أولئك قوم لا يخلّفون إلاّ أثافيهم إذا إرتحلوا.. هذا إذا تركتها النّساء…
إحتجت زمنا غير زمان الصبا لتفهم حمحمة الوالدة بأنّها ولدتك واقفة.. وتعلم منها بعد أن إشتدّ عودك وما كَبُرت هامتك أنّك مولود في حصيدة ليس لكم من قمحها إلاّ الرّبع.. كانت والدتك.. تلك الفرس.. تشتغل بما يسدّ جوع الإناث الأربعة وذكر بكّاء لليلتهم تلك.. أمّا الوالد فكان ساعتها راعيا عند “سيّده” الذي هو عمّك.. وله موضع آخر في هذا النّص ونصيبه من تعب الطّين…
جاءها المخاض وقد حصدت ما لا يكفي لتضعه في رحاها… ففرحت.. لأنّها ستتخلّص أخيرا من ركل رجلك العجفاء تلك… وتتأكّد من بشارة بعض الصالحين لها بأنّها ستلد ذكرا.. وسوف تفخر به، إن كنت ذكرا بالفعل، على زوجة عمّك التي تعيّرها بإنجاب “القشقاشة” من الإناث.. وتتبغدد عليها قائلة: “يعطيك البنات، والهول بالحفنات”.. بدأ الطّلق وغُمر السنابل في يدها.. لم تترك غنيمتها تسقط من قبضتها.. فلها فيها الرّبع دون ما تلقطه مما يتخلّف من سنابل بعد حصدها.. فتحت ساقيها للماء السائل.. سقط غطاء رأسها وتعرّى للشمس الحارقة.. صدر الصوت من الحلق حمحمة وإنكسر.. صاحت بملء إيمانها تستجدي وليّكم الصالح وسيدي عبد القادر ليعيناها.. لا حبل تمسكه فأمسكت جديلة شعرها العاري.. دفعتك.. أعادت غوثها بالله وأوليائه.. زحمت وأرخت حزامها.. وتلفّتت.. لا أحد قريبا ينظر إليها.. سترها الله.. وهذا هو المهمّ.. تسارعت أنفاسها ففتحت منخريها للهواء الطّلق هناك في حصيدة ليست لكم في عامها الأعجف…
مع صيحتها المكتومة، نزلتَ كعجينة طين غير مستوية.. وإمتدّ الحبل السريّ بين ساقيها.. عندها فقط تركت غُمر السنابل يسقط وأدارت منجلها لتقطع آخر ماكان يربطك بها.. على ثرى الأرض القصيّة التي لا يزورها إلاّ جرّار قديم يحمل العوائل لبلاد النخل والماء، سقط رأسك وجاءت صيحتك ودمعتك التي أخفيتها عنها حين طردك رفاق القبيلة من حلقة لعبهم الخشن…
لفّتك في خرقة ملحفتها الشخماء من تعرّضها لشمس شهر غشت في صحراء العربان.. وتحقّقت من “ذكورتك”.. قالت لك: “أردت أن أزغرد فوجدت حلقي مشروخا ممّا كنت فيه” فخرج صوت أقرب للأنين.. ذاك الصوت تعرفه جيّدا.. فقد سمعته عندما جئت تبشّرها بحصولك على شهادة الباكالوريا فأنّت ولم تجد زغردتها التي تعرفها…
لم تشأ أن يبيت بناتها بدون عشاء.. أرضعتك وقد حنّ الضرع وفاض حليبه سخيّا.. وقامت لتواصل حصادها وتتفقّدك من حين لآخر لتبعد عنك “البخّوش”… ذاك الخنفس اللعين الذي يستطيب لحم الولدان فيخمش خدودهم وأنوفهم… توعّكت ولكنّها واصلت فالمغرب قرُب وعيون أخواتك تنظر للرّحى الفارغة… عادت بك هديّة سنيّة.. ولم يزرها أحد.. وأدارت رحاها ولم تنتبه لسيلان الدّم القاني على ثفال الرّحى.. وبدأ النّزيف…