“رأس” واحدة تطيح بها الدولة وستمطر السماء ذهبا وفضة
منذ انطلاق ماسمّي بالحرب على الفساد انقسم التونسيون إلى فئتين: فئة متفائلة بالحرب وبنتائجها، وفئة مشكّكة في جدّيتها وفي إمكانية بلوغها مداها.
أمّا الفئة الأولى، فتتكوّن من الطّيّبين من هذا الشعب، ممّن لم يفقدوا الأمل في نجاح ثورتهم وتحقيق أهدافها برغم حجم العراقيل وعنف الثّورة المضادّة وسطوة مالها وإعلامها، تسكنهم روح التّفاؤل بالخير ويعملون بمقتضى الحديث الشريف: “من قال إنّ النّاس قد هلكوا فهو أهلكهم”، لذا فإن هذه الفئة متمسّكة بالأمل تمسّكها بالحياة تبحث عن ضوء حتّى وإن كان خافتا وسط نفق مظلم أتقنت الثّورة المضادّة حفره. أيّ فاسد وقع في هذه الحرب، وأيّ دينار دخل خزينة الدّولة من مصادرة أموال الهلّاك لاشك أنّه يصبّ في مصلحة الوطن. ويبقى الأمل قائما بسقوط أفواج أخرى من الفاسدين. من يدري، لعلّ اوّل الغيث قطرات ثمّ ينهمر.
أمّا الفئة الثانية، وهي فئة المتشكّكين، والمشكّكين، ترى فيما يجري تصفية حساب بين عصابتين، وأنها حملة محدودة في الزّمان والمكان ولا يمكن پأيّ حال من الأحوال أن تتحوّل إلى حرب شاملة على فساد شامل وحجّة هؤلاء أنّ الحرب انتقائية تخدم عصابة ضدّ أخرى. وقد أقرّ شفيق جراية من حيث لا يدري بوجود عصابتين عندما قال في وسائل الإعلام وتحت متابعة الإعلاميين “شد عليّ كلابك نشد عليك كلابي”.
لو أنّ الدولة تطيح برأس واحدة صاحبها معروف لدى التونسيين جميعا لكونه ورغم ادّعاء “كلابه” انّه مواطن عادي فهو في حقيقة الأمر عند عامّة النّاس رأس الفساد بل يقول كثيرون إنّه دولة داخل الدولة. كما أشار كثيرون في وسائل الإعلام وفي شبكات التّواصل الإجتماعي منذ كشّرت الثّورة المضادّة عن أنيابها وانطلقت عمليّا في استعادة المشهد النّوفمبري، أنه “الرجل اللّغز” في تونس. يتواصل يوميا مع عشرات بل مئات من الإعلاميين والسياسيين وغيرهم من النّافذين، فهل يمكن لمن كان ذلك شأنه أن يكون مواطنا عاديا ؟ وقد أشار وجه يساري بارز في عدائه للثورة وفي الخيار الدّيمقراطي الذي فرضته الثّورة أنّه اتّصل بالرّأس الكبيرة وطالبه هو وأمثاله من أصحاب المال والنّفوذ أن يتحمّلوا “مسؤوليتهم التّاريخية”. وقد كان له ما أراد حيث تحركت “مكينة” الثورة المضادة وأجمعت أمرها في اعتصام الرّحيل على رحيل الخيار الدّيمقراطي والإنقلاب على المؤسّسات الدّستورية النّاشئة لأنّ البلاد على حد زعمهم ليست مهيئّة للممارسة الديمقراطية وهو نفس منطق المخلوع. فكان لهم (كهنة العلمانية والنظام النوفمبري ويساره) ما أرادوا.
لا شك أنّ رأسا يلجأ إليها اليسار رغم ادعاء التّناقض معها وإنّ رأسا تستنجد بها الثّورة المضادّة صاحبها أكبر من مواطن عادي وأكبر من كلّ مسؤول بل وفوق القانون والّدولة. تجمّعت لديه سلطات رهيبة، كما لم تتجمّع عند أحد، حتّى عند حكومة الترويكا وقتها. ولا شكّ عندي أنّ الدّولة لو تطيح بهذه “الرّأس” سيصدّق التونسيون انّنا إزاء حرب حقيقيةّ على الفساد وانّ الوضع الإقتصادي سيتحسّن وأنّ مناخ الإستثمار هو الآخر سيتحسّن وستعود أجواء الأمل للقلوب التي داهمها طوفان اليأس. بل أكاد أقول ومن باب الإحساس بخطورة “الرّجل اللّغز” لو أنّ الأجهزة التّنفيذية للدّولة تطيح به ستمطر السماء ذهبا وفضة وسيتفجّر باطن الصحراء نفطا وغازا وستخرج الأرض من خيراتها وبركاتها.
لقد كسبت الدّولة معركة الإنتقال الديمقراطي وكسبت الحرب على الإرهاب ولم يبق لها إلا أن تكسب حربها الثالثة، هذه المرّة ضدّ الفساد. فقط يحتاج الأمر إلى الإطاحة بالرأس الكبيرة.