تدوينات تونسية

(الكهَنُوت) و(اللاَّهُوت) الإسلاميّيْن !!

مهدي الغول

عانَت أوروبا في القرون الوسطى من الكنيسة الكاثوليكيّة الكثير والكثير. حيث تحالفت تلك المؤسسة الدينيّة -بعد أن أوغلت في تحريف الدين المسيحي، فأصبح دينا وثنيًا خرافيًا- مع الملوك والأمراء والإقطاعيين ضدّ الفقراء والفلاحين، من أجل الكسب المادي والتمتع بالنفوذ والسلطة. كلّ هذا جعل العقول المفكّرة الأوروبيّة -التي سبقت الثورة الفرنسية- تدعو بشدّة إلى فصل الدّين عن الدولة، بما معناه نزع القداسة عن الملوك، وإبعاد مؤسسة الكنيسة، المخادعة والموظّفة لتعاليم الدّين وأحكامه لصالح النبلاء والأمراء والإقطاعيين، عن القرار السياسيّ وعن الموقع السّيادي في دوائر الحكم.

ومن إفرازات تلك المؤسسة الكاثوليكيّة مُنتَجان استعملتهما بشدّة وبدهاء لقمع الخصوم فكريًا ولتكبيل الحريات ولمحاربة العلم والتعلّم: هما (علم اللّاهوت) و(مؤسسة الكَهنوت)!!
• أما علم اللاهوت: فهو علم يهتمّ بالعقيدة المسيحية بالبسط والشرح والتفسير، ويُستعمل فيه المنطق والفلسفة لتبرير الثالوث المقدس والأساطير المحيطة بالدين المسيحي المحرّف وطقوسه. ما يُعاب على ذلك ”العلم” هو طلاسميّته وغموضه واستيلاء علماء الكنيسة عليه، أيْ أنّ الفهم كلّ الفهم هو فهْمهم ولا سبيل إلى الإيمان المسيحي إلا من طريقهم، وأنّ ذلك ”العلم” يجب أن يُأخذ كما هو وكما كتبه علماء اللاهوت من غير نقاش ولا محاولة بحث وفهم ونقد وشرح وتصحيح!!
• وأما طبقة الكهنوت: فهي طبقة رجال الدين النصراني المتحكمة في كل ما يخص الإيمان والمؤمنين، حصريًا. فهم الذين يمثلون الوسيط الشرعي والوحيد بين الربّ وبين المؤمنين، فلا طريق للخلاص إلا من طريقهم، وبالتالي لا مؤمن إلا من عمّدوه، ولا سبيل للرجوع للإيمان لمَنْ أخرجوه من حضيرته. كما أنّهم يدّعون أنّهم أصحاب الفهم الوحيد الصحيح للدّين المسيحي، لذلك وجب على كلّ مؤمن أن يمرّ عليهم للفهم وللفتوى ولطلب المغفرة والعفو والبركة!!
لكنّ الإسلام بما هو دين مُقدّس غير محرّف ومحفوظ من الله العزيز الجبار لم تطله هذه التغييرات والتحوّلات. فالإسلام لم يكن -أبدًا- دينًا يدعو إلى قدُسيّة الحاكم ولا إلى حكمه باسم المقدّس الإلهي، كما أنّ كل مسلم مكلّف بفهم وتطبيق الدين على قدر مستطاعه، والأهم من هذا كلّه أن الله سبحانه أمرنا بأن نتوجه إليه مباشرة في الدعاء وفي طلب الرزق والمغفرة من غير الالتجاء إلى وسائط من الأحياء ولا حتى الأموات. هذا إلى جانب أنّ الإسلام دين يطلب من أصحابه ومعتنقيه الرجوع إليه في كل شيء، في الحياة الخاصة والعامة ومن ذلك السياسة، وهو دين يشجّع على العلم والتعلّم… فلا سبيل ولا مجال للمقارنة بين الإسلام كدين وتديّن وتطبيق وبين النصرانية وما آلت إليه. لكنّ، كل هذا يبقى نسبيًا، فها نحن اليوم أصبحنا نرى توجّهات جديدة نحو (لاهوت إسلاميّ) و(كهنوت إسلاميّ)!! كيف ذلك؟
– بعد الأحداث الأخيرة في البلدان العربيّة، وخاصة العواصف السياسيّة والحروب الدامية، سمعنا في عديد المرّات كلامًا من بعض الفئات والمجالس العلميّة تُفتي في بعض المسائل الخطيرة والصعبة بطريقة تنتصر فيها لحاكم على حساب حاكم أو حزب أو لتيار على حساب تيار آخر وحزب ثانٍ، لاوِيةً أعنق الأدلّة النقليّة والعقليّة، لا لشيء، إلا لإضفاء شرعيّة دينيّة وقداسة ربانيّة على شقّ سياسي مُعيّن وعلى أفعاله. والأدهى والأمرّ أنّ هؤلاء المتعالِمون يحصرون العلم الشرعي عندهم ويتكلمون باسم الحقيقة الإلهية المطلقة ويجعلون أنفسهم رُسل هذا الزمان، وكلامهم هو الدين وهو العلم وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (!!) ثمّ يتمادون في غيّهم فيرشقون مخالفيهم في الجزء أو الكل بالفسق والكفر والبدعة والضلال والتضليل… ويحرّمون على المسلم البسيط السّماع لهم أو اتّباعهم!! أليس هذا بـ(كهنوت إسلامي)؟!
والأمثلة لا تعوزنا: هيأة كبار علماء السعودية التي انتصرت لحاكمها الملك سلمان وبدّعت وكفّرت مخالفيه من الإخوان وقطر وحماس، وادّعت دائما أنها تمثل الإسلام الصحيح الصافي. كذلك المتشيّخ ربيع المدخلي وأتباعه الذين يدعون العصمة لشيخهم ولفتاويه ويبدّعون جميع الفرق والجماعات المختلفة حتى في الفروع. الشيعة الإثني عشرية الإيرانية حدّث ولا حرج (!!!). وآخر مثال: المؤتمر الذي وقع في الشيشان وأصدر بيانا يكفّر كل السلفيين في اصطفاف واضح مع رئيس الشيشان وبشار الأسد وشيخ الأزهر الحالي… كل هؤلاء حسب رأيي يمثلون اتجاها أسمّيه أنا (الكهنوت الإسلامي).
– أما (اللاهوت الإسلامي) فهو من مظاهر انحسار العقل وضيق الأفق عند المشتغلين بالشأن الديني وعلومه ومعارفه.
فتجد، مثلا، من ينسبون أنفسهم للعقيدة الأشعرية ولا يقبلون فهما للعقيدة إلا من طريقهم هم، أي من طريق كتب علمائهم المتأخرين، ويجعلون من لا يقرؤها ويدرسها ويمعن فيها ناقصا في إيمانه، حتى وصل الأمر بتقليد بعض المعاصرين للسّنوسي في القول بتكفير المقلّد في العقيدة بتفاصيلها وتقسيماتها (!!). رغم أن العقيدة الأشعرية محاولة للفهم والتبويب والردود، وهي علم للعقيدة وليست العقيدة (بألف ولام التعريف)، والله سيحاسبنا على ما نعتقد، أي العقيدة، لا على علم العقيدة بتفريعاته واستدلالاته. مع ملاحظة أنّ ما هو مُدوّن في كتب الأشعريّة -الآن- يعدّ تراكمًا لأفهام دُوّنت على مدى فترات طويلة، وضع أسُسها الإمام الأشعري ثم الجويني والباقلاني، وغيرهم أضاف وأنقص حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن… فهي ليست كل الفهم ولا مقدسة ولا شرط للإيمان!!
وتجد أيضا، في الشق الآخر ”السلفي”، من يرى أنّ كل من يخرج عن مقررات المدرسة النجْديّة في علم العقيدة فهو صاحب منهج منحرف أو مبتدع أو ضال مُضلّ، حتى ولو كان الاختلاف في جزئية لا قيمة لها في الواقع والتطبيق. بل ويصل الأمر إلى تكفير المخالف في أمور اجتهاديّة ظنية مبنيّة على استنباط معاصر في مسائل من قبيل السياسة الشرعيّة كانت تُعدّ عند علماء السلف من قبيل الفروع الظنية لا الأصل العقدي، وبالتالي كان القول فيها يدور بين الصواب والخطأ لا بين الكفر والإيمان (!!). ومثال ذلك: تكفير بعض المنتسبين للسلفيّة لمن يخرج في مظاهرات أو يدخل انتخابات، وتكفير الشق الآخر لمن ينتقد الملك أو الأمير (!!!)، وتكفير ”داعش” لكل مسلم لا يُبَايِعُها (!!!).
واللع أعلم وأحكم.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock