لا يوجد نصّ بكر…
زهير إسماعيل
[في ترتيب العلاقة بين الإصلاح والثورة]
لا يوجد نصّ بكر، عبارة لعلماء الأدب تعني أنّ كلّ نص هو جِماع نصوص سابقة عليه. وهي نصوص مختلفة من حيث موضوعها ونوعها وخصائصها المميّزة. وهذا يطرح عند أهل الاختصاص في علم الأدب قضايا عديدة شائكة منها مسألة النموذج ومفهوم النص وحدود التجربّة الفرديّة في الإبداع الأدبي خاصة وميدان الفنون عامّة. بل وحتّى في عالم الاختراع والتكنولوجيا.
كان للمسلمين وعي بهذا الأمر عند تلقّيهم القرآن الكريم على أنّه وحي منزّل، كانوا يجدون أنّه نزل بلسانهم، وفيه إحالات على جانب من معتقداتهم واجتماعهم وقيمهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأجوارهم (الروم والفرس)، واشتمل على كثير من الإجراء اللغوي يذكّرهم بطرق تصريفهم العبارة وبناء المعنى. وقد أفرد أبو زيد القرشي في كتاب جمهرة أشعار العرب بابا اهتمّ بما وافق فيه القرآن معنى ألفاضهم وأشعارهم.
لم يدّع القرآن أنّه نصّ بكر، بل كان شديد التذكير بأنّه امتداد لما سبقه من كتب سماويّة وتعاليم نبويّة حملت الهدى ذاته (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ۗ ). وبقدر تذكيره بالأصل الحنيفي الإبراهيمي يشدّد على أنّه تتمّة لمكارم أخلاق هي عماد الاجتماع الإنساني، وعلى أنّ الأنبياء إخوة ودينهم واحد.
لا يوجد نصّ بكر…
فكرة تنتمي إلى حقل الأدب والنصوص والكتابة، ولكنّها من صميم السياسة. وترجمتها السياسيّة هي: لاتوجد تجربة بكر. فكلّ تجربة هي امتداد لما سبقها. وفيها من معطيات التجارب السابقة دون أن تكون اجترارا لها.
يستنجد البعض، عند هذا المعنى، بفكرة التحوّل النوعي (فكرة جدليّة) للتأكيد على أنّ حضور العناصر نفسها في التجربتين المختلفتين لا يعني تكرارا، وإنّما هو اختلاف وظيفة العنصر الواحد باختلاف البنية التي ينتظم فيها.
الثورة بمعنى أنّها عمل “بكر”، و”فعل مبتدأ” و”حركة مخترعة” لا تحيل إلى أي مرجع بعيدا كان أو قريبا، غير موجودة. ومن الناحية النظريّة تمثل الثورة قيام الأغلبيّة العظمى في وجه الوضع القائم بغاية تغييره، ولكنها فعليّاغير ذلك. وحتى ما عرف من ثورات جذريّة كانت المشاركة فيها قليلة مقارنة بعدد السكان.
فبهذا المعنى لا يوجد إلا الإصلاح، ولا يمنع كثيرين من الانتهاء إلى هذه الحقيقة سوى ما ارتبط بعبارة الإصلاح من معني حافّ سالب، وما ارتبط بعبارة الثورة من معنى حاف موجب.
الثورة سليلة “فكرة التناقض” والإصلاح سليل “فكرة الاختلاف”. وعن التناقض كان “الصراع/التنافي” وعن الاختلاف كان “التدافع/ التعارف”. ولذلك فإنّ من يؤمن بالثورة يعيش على “وهم القطيعة” و”امتلاك الحقيقة” في حين يعيش من يؤمن بالإصلاح على “تواصل الجهد الإنساني” رغم اختلاف سياقاته وعلى أمل “امتلاك نصيب من الحقيقة” لأنّ الحقيقة في التجربة الإنسانيّة المشروطة لا يمكن أن تكون في جهة واحدة.
فلسفيّا وقيميّا وواقعيّا تبدو الثورة على يمين الإصلاح… فنحن أمام فلسفتين: فلسفة التناقض وفلسفة الاختلاف.
ومن المفارقات أنّ الغرب المشبع بـ”ثقافة التناقض” تطوّر نحو “تجارب الاختلاف” (الديمقراطيّة، وحقوق الإنسان)، في حين تطورنا نحن المنحدرون من “ثقافة الاختلاف” باتجاه “التجارب المطلقة” (الاستبداد والدولة الدينيّة)، باسم دينٍ رسالتُه الأولى تجذير الاختلاف وتأسيسُ التعارف.
في معجمنا السياسي التراثي ارتبطت الثورة بالغضب والتعبير العشوائي والخروج… وفي التجربة الغربية وهي تجربة حديثة وصغيرة السن مقارنة بتاريخ الإنسانيّة الممتدّ، ارتبطت
الثورة بالتحول الجذري والقطيعة.
هناك خلل ما حدث في التجربتين، قد يكون في العلاقة بين الدين والسياسة في تجربتنا، وقد يكون في العلاقة بين الدين والعلم في تجربتهم…
لا يوجد نصّ بكر… لا يوجد فعل بكر…
في البدء كان الإصلاح…