عبد اللطيف علوي
لماذا في اﻵداب بالذّات تسقط النسبة إلى ذلك المستوى الكارثيّ، 13 % ؟
تحليل هذا الرقم يحتاج دون شكّ إلى وقفة تأمّل طويلة، ولكن للوهلة اﻷولى خطرت لي بعض اﻷفكار أتشاركها معكم:
• شعبة اﻵداب بالذّات وشعب اﻹنسانيات عموما، هي المحرار الحقيقي الذي يمكن أن نقيس به مدى نجاح أي أمّة في بناء اﻹنسان… وهي بهذه النتائج تعكس ضحالة ما وصل إليه التعليم في بناء اﻹنسان التّونسيّ، تعكس ضحالة الثقافة لدى أبنائنا، بسبب انعدام القراءة والمتابعة ﻷيّ شأن جادّ وغياب القدرة على التّحليل والنّقد والتفكير والتعبير وضمور الخيال وتسطّح المعاني في عقول أبنائنا وتعكس الفراغ الروحيّ وحالة اللاّأدرية المعرفية لهذا اﻹنسان الذي كنا نتصور أن نجده شيئا آخر بعد سبعين سنة من الاستقلال كما اراد له زعيمه صاحب المادّة الشخمة.
• الشعب العلمية وباقي الشعب هي شعب تقنية أو مهارية، يمكن النجاح فيها دون الحاجة إلى بناء اﻹنسان، من حيث هو ثقافة ووعي وفكر نقدي ونظرة شمولية إلى اﻷشياء وإلى العالم، ولذلك بقيت نتائجها مستقرة ومعقولة رغم الانهيارات المتالية لمستوى التعليم…
• أغلب الذين استثمر فيهم اﻹرهاب من الجامعيين هم أبناء الشعب العلمية، وليس ذلك من الصدفة، فهؤلاء في الغالب، رغم معارفهم وحتى نبوغهم في مجالاتهم، يفتقدون إلى ما تتيحه الفلسفة والحضارة والتاريخ واﻹنسانيات عموما من أدوات معرفية ونقدية في النظر إلى اﻷمور، وعندما يصبح حتى أبناء اﻵداب واﻹنسانيات فاقدين بالكامل لهذه اﻷشياء، يصبح تخيل النتائجج أمرا رهيبا… هذا يعني أنّ مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، بمثل هذا السقوط المريع في بناء اﻹنسان… اﻹنسان الشامل، صارت مهمتها توفير جيوش الاحتياط للدّواعش وأخواتها.
———-
في الثمانينات، كان من يتحصل على معدل 13 أو 14 من عشرين ننظر إليه كدينصور من دينصورات المعرفة، شخص خارق بعقل اليكتروني بالغ الغرابة والتعقيد، الـ 15 معدل لم يكن يتجرّأ عليها إلاّ من كان عقله يعمل بسرعة تفوق سرعة الضوء ضعفين أو ثلاثة، أمّا الـ 16 أو 17 فكانت من المحرمات التي يجمع عليها كل علماء اﻷمة وفقهائها، أما الـ 18 و19 فكانت كفرا بينا صريحا يكتب على جبين من يأتيه: آيس من رحمة الله ثلاثا…
وكان أصحاب المعدّلات الفلكية -يعني من 13 إلى 15- ننظر إليهم ككائنات غريبة تعيش معنا، كان الذكر منهم، في الغالب يبدو قصيرا ضامرا بنظارات سميكة وشعر شديد الانضباط ممشوط بعناية إلى أحد الجانبين، يمشي مستقيما كبركار ويجلس كزاوية قائمة ويتكلم كروبوت ويضحك كتمثال ويلبس أشياء متناسقة ومكوية بشكل مزعج ولا يتقبّح أبدا ولا يدخّن ولا يشاركنا مقالب اللبن في المحفظة والضفادع في اﻷدراج ولا يحبّ ولا يعشق ولا يخاصم ولا يتحرّش بجميلة القسم ولا يتغوط إلا بوقار ومهابة ولا يتبول مثل اﻵخرين في شكل شبه منحرف، ولا يلعب معنا الكرة إلاّ حارس مرمى ولا يشاركنا الفصعة أحيانا وتقريد اﻷستاذ أحيانا أخرى، كان شخصا صموتا غامضا كتوما يسبقنا دائما إلى المقعد اﻷماميّ وإلى تحية العلم وفي الغالب يحظى بشرف رفع العلم ولا يتأخر في الوشاية بمن يكتب على الطاولة أو يمضغ العلكة وقت الدرس…
البنات الخارقات أيضا، كانت الواحدة منهنّ لا يجب أن يتجاوز طولها 90 صنتيمترا، حادة الوجه والنظرات واللّسعات، شعرها جاف ومتقصّف كاﻷسلاك تشدّه بعقدة كبيرة إلى الخلف ومحفظتها كبيرة وعريضة جدّا، أعرض من ظهرها، وصدرها لا يظهر منه شيء أبدا، كأنّها تكويه بالمكواة، وكذلك مؤخرتها، لا تخالط إلاّ الحاذقات الصغيرات ولا تلتفت أبدا إلى ذكور البطّ التي تدرس معها ولا تضحك على نكتة قبيحة أبدا ولا تصطحب والدها أبدا لتحصل على بطاقة دخول، ولا تفكّر في الزواج أبدا حين تكبر، لكنها تفكر دائما كيف تصبح أمّا صالحة تنجب المربّعات والمكعبات واﻷشكال الهندسية الرائعة…
كان من يحصل على مثل تلك المعدلات يبدو بالنسبة إلينا شخصا قادما من عالم آخر، بعضنا يتقرب إليه ويتودّد وبعضنا يتحاشاه كأنه يخشى العدوى…
اليوم صرنا نسمع عن معدّلات في الباكالوريا تفوق الـ 18 والـ 19… فنضع جام بلا أيّ استغراب ونمرّ…
أعيدوا إليّ زماني!!!
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.