غفران حسايني
كان رمضان قديما عندما كان يأتي في فصل الشتاء كشيخ جليل وحكيم يلبس برنسا بربريا يحوّل طفولتنا إلى بركان متدفق من الحميمية التي لا توصف، فرمضان بالنسبّة لنا ونحن صغار في الحومة أجمل بكثير من بابا نويل الذي يظهر في الصور المتحرّكة يحمل الهدايا إلى الأطفال..
فقد كان رمضان بالنسبة لنا أجّل من بابا نويل، اتقى منه بكثير، أصدق، أقرب لنا في قلوبنا كجدّ جميل وقديم يحضن أحفاده ويداعب تفاصيل وجوههم ويمسح شعورهم المجعّدة كتفتّح زهر اللوز ويعطهم الحلوى، كنّا لا نهتم ببابا نويل ولا نأبه به ولا نتحدّث عنه في رأس السنة مطلقا، لقد كان رمضان يهيمن على قلوبنا ننتظره بترقّب شديد ومن يكون بابا نويل هذا الذي يمكث ليلة ويغادر على عجل أمام رمضان الذي يمكث شهرا كاملا وإذا غادر فإنه يترك لنا العيد الأصغر أو عيدنا نحن الصغار ويعدنا بعيد آخر جليل مثله تتفتق فيه خلايانا العصبية وهرموناتنا الدماغية التي تعود بنا إلى مهنة جدودنا الأولين رعاة الغنم، وكم كنا نعشق أغنامنا في العيد الكبير…
المهم أن رمضان ضرب من السعادة التي لا توصف وموسم تتفجّر فيه عقولنا إبداعا، إنه زمن كنّا نبتكر فيه اللعب التي تصنع بأيدينا لم نكن نحتاج إلى تهريب الفوشيك من الحدود كنا نصنع من مفتاح قديم ومسمار أقدم منه فوشيكا ثم تطور التصنيع عبر مواسم فأصبح المفتاح سلاحا تقليديا باليا أمام قطعة من حديد يخرج الحدّاد بطنها ويتركها لنا خاوية لنحشوها بالكبريت، ويا لعظمة من يكون له كبريت من باكستان لقد كان ذلك الكبريت الباكستاني عظيما كعبد القدير خان أب القنبلة النووية لباكستان وكنا نظن من حيث لا نحتسب أن الكبريت حمّل روح مفاعل باكستان النووية عندما يحدث إنفجارا مع تكبيرة الأذان عند المغرب.
لقد كان رمضان جليلا بالنسبة لنا يدعم روح أخوتنا في الحومة، أجل لقد كبرت في حومة كنا نعتقد أنّ جميعنا إخوة وإن تعاركنا وتشاجرنا لم نكن نسمع من أباءنا وأمهاتنا يقولون لنا ولد الجيران وكانّه كائن بعيد منفصل عنا، كانوا يقولون برّة مع خوك، رد بالك على خوك، بوس خوك إذا تعاركنا ولا زلنا إلى اليوم كذلك وسنبقى نشتاق لبعضنا البعض كالإخوة تماما ونهنئ بعضنا برمضان ونتذكر جلالة قدره إنه شيخنا.
كنت فاشلا إلى أبعد الحدود في أن أتقن تجميع بعض بقايا حكك الطماطم وصناعة عربة أشارك بها أولاد الحومة الهيجان قبل المغرب وفي الليل، كنت اعجز عن إيجاد قطعة خشب والنزول إلى السوق للبحث عن عجلات من حديد يتم شدّها بالمسامير وتحويل قطعة الخشب إلى عربة نجلس عليها ونحوّلها إلى أشبه بالسيّارة “الفراري” التي تدفع في المنحدرات فنطير، كان يبدو لي الأمر صعبا للغاية كنت أعاني من عجز في التصنيع ولكني كنت ألعب مع أولاد الحومة كما لو اني امتلك عربة لي، لم يكن يمنعني احد من أن أركب عربته وان يدفع بي في المنحدر كعجلة مطاطية لا يوقفها إلا احتكاك الشلاكة بالأرض.
كل هذا كان يحدث قبل الإنترنت وقبل الهاتف الجوال وقبل الفايسبوك الذي يأكل أعمارنا ولم ينسينا أبدا أن رمضان شيخنا الجليل والحكيم الذي يلبس برنسا بربريا وجدّنا الذي يمسح تفاصيل وجوهنا وتجاعيد شعرنا ويعطنا الحلوى ويحوّل طفولتنا إلى بركان متدفق وهو اجل بكثير من بابا نويل.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.