جريدة الفجر: ذكريات الولادة ودلالات الغياب
قد لا يمثّل توقّف جريدة الفجر النّاطقة باسم حركة النّهضة في شكلها الورقيّ حدثا بالنّسبة إلى الكثيرين، بيد أنّه يمثّل لجيلي من التلاميذ والطلبة والأجيال التي سبقتني حدثا ودلالة، فالجريدة التي رافق صدورها في أفريل سنة 1990، جدل كبير قد خلخلت السّائد الإعلامي وهزّت الواقع السّياسيّ وقتها، كيف لا، وقد مثّلت تحدّيا ثقافيّا وإعلاميّا لا للمتحزّبين والسيّاسيين فحسب، بل لشريحة لا بأس بها من القرّاء وخاصة التلاميذ والطّلبة، حيث كانت علامة فارقة في الإعلام، فقد وضعت الإعلام الرّسمي “المنضبط” لتعاليم الحزب والحكم في حرج وشرعت تطرح حوله أسئلة الجدوى.
لم تكن الجريدة حزبيّة بالمفهوم الدقيق للكلمة، فقارئها يجد فيها ما يروي ظمأه من مصداقيّة الخبر وثرائه وعمق التحليل واستراتيجيا التوقّع وتنوّع الأصوات فيها، حيث كانت تقريبا “صوت من لا صوت له”؛ فلم يستنكف المشرفون عليها من فسح المجال لنقل أخبار المعارضين من مختلف المشارب الفكريّة والإيديولوجيّة والتضامن معهم وإصدار بيانات التنديد بالتّضييق عليهم، كانت الفجر وقبلها فعلت جريدة الرّأي وبعدها الموقف صوت الحزب الاشتراكي التقدّمي في بداية الألفيّة الجديدة متنفّسا لجيل برمّته، فرغم أنّ أعدادها لم تتجاوز الأربعة وعشرين عددا صودر منها أربعة أعداد، إلاّ أنّها ملأت الدّنيا وقتها وشغلت النظام.
والمفارقة التي يجب أن يُنْتبَه إليها أنّ صدور الفجر كان حدثا وحجبها ومنعها من الصّدور كان حدثا كذلك! من هنا نفهم أنّ لعبة “الإباحة والمنع” قد ولّدت لدى الشباب خاصّة وعيا بحقيقة النظام القمعي وبخداعه وتنكّره لبياناته التي يصدرها، فكانت مرحلة القمع الحالكة منذ الحادي والتّسعين وتسعمائة وألف، ومواجهة النظام لمعارضيه وتضييق الخناق على المعاهد والجامعات وتحويل الجامعات إلى سجون زرع فيها البوليس والمخبرين. وقد أقدم النظام على حجبها نهائيّا بالتّهم نفسها التي لم تكن لتنطلي إلاّ على المتحزّبين الحكوميين أو البسطاء والأميين، لأنّ الوعي بالحقّ في نسمة الحريّة قد هبّ على جيلنا، لم تكن الفجر مجرّد جريدة حزبيّة، فقد مثّلت صوت التحرّر والحوار ومنبرا للمطارحات الفكريّة، لذلك لا يجب أن نغفل دورها في مسار مراجعات حركة النّهضة الفكريّة وتطوير طروحاتها وأطروحاتها وتفاعل مفكريها وكتابها مع الواقع الثقافي العربي والأسلامي، فلا ينكر إلا جاحد أنّه في زمن كانت فيه المعلومة شحيحة والقامات الفكريّة تخوّن وتشوّه كانت بعض المنابر الإعلاميّة القليلة نافذتنا على الواقع والعالم، وإضافة إلى الفجر كانت إذاعة مونتكارلو الدولية والBBC متنفّسا… لهذا وغيره يطول فيه الحديث يمثّل توقّف الجريدة حدثا مؤلما أشّر على إيلامه رحيل قامة إعلاميّة وفكريّة في حجم المرحوم عبد الله الزواري، فكان أن وجد الأستاذ محمد الفوراتي نفسه يواجه صعوبات المادة الكتابية والمادة المالية وحيدا تقريبا.
2. في دلالات التوقّف والغياب :
لا يخفى على أحد أنّ التطوّر العلمي والتكنولوجي قد أرسى هوّيات قرائيّة جديدة كما مثّل ضغطا هائلا على المادة الورقيّة في ظلّ فاعليّة الإعلام الإلكتروني البديل، فلم يعد القارئ يجد صعوبة في التعامل معه، وزاد نفوره من الجريدة والمجلّة الورقيتين واستعاض عنهما بالقنوات التلفزية الجديدة المدعومة من رأس المال وبالفايسبوك واليوتيوب وغيرهما، كما أنّ تأثير الأعلام المعولم على الشّباب خاصّة قد أرخى بظلاله عليهم فزاد نفورهم من القراءة وجعل القراءة اليوم في موقع المساءلة.
إنّ غياب الفجر يدفعلنا لطرح الأسئلة أكثر من البحث عن الأجوبة : فما دلالات الغياب ؟
أ. هل يعني غياب الفجر، تخلّي حركة النّهضة عن صوتها لفائدة تعدّد الأصوات داخلها ؟ وكيف لحزب أوّلي ومهيكل في الساحة السّياسيّة التونسيّة يمكن أن يتخلّى عن صوته بتلك السّهولة؟
ب. أ يعقل الحديث عن فصل الحركة للإعلاميّ عن السّياسيّ، بعد فصل الدّيني والدّعوي عن السّياسي ؟
ج. لصالح من الغياب ؟ وهل نحن بالفعل في زمن “المغرب” لا في زمن “الفجر” كما أوحى الأستاذ سفيان علوي؟
د. ما البدائل التي تعدّها حركة النّهضة لقرّائها ؟
ختاما، هي بعض من هلوسات الماضي وشيء من انشغالات الحاضر أوردناها للمعنيين بالشّأن الإعلامي والمهتمّين به ّ، في وقت تساقطت فيه رؤوس كنّا نخالها هامات إعلاميّة وقامات فكريّة سرعان ما نزعت عنها الثورة ورقة التّوت وكشفت عن وهنها وزيفها، إلا القلّة القليلة.