ما تيسَّر من وجع
منير إبراهيم تايه
يمكنك الدخول إلى المدينة من عدة أبواب، باب العامود والأسباط والساهرة والمغاربة وباب الحديد، ومن باب العامود دخلت إلى القدس العتيقة، تتنقل بين الدكاكين القديمة والبيوت الحجرية.
يحصل أن يأتي عليك يوم تقرر فيه أن تمشي في مدينتك وحدك دون هاتف ودون ساعة يدك التي تظن دائما أنك وُلدت بها، لن تخبر أحداً متى ستعود.
تقف على أول درجة من درجات السلم وتأخذ نفساً عميقاً، وتتأكد أن كل شخص في مكانه من بائع الكعك إلى بائع الخضار وبائع الحلويات، والشاب الذي ينادي على اللوز والفراولة في مكانه، تطمئن أن حجارة البلدة القديمة في مكانها أيضاً، وأنها لا زالت عربية تشعر بأن هذه الحجارة تحتضنك، وهي فعلاً تفعل ذلك، تنصت لصوت شاب يخبر صديقه متفاخراً كيف دخل المدينة تهريباً، وكيف أن الجنود لم يكتشفوا أنه صلى الظهر بالمسجد الأقصى.
حين قاربت على إنهاء طريق الواد وقبل دخول باب المجلس، مررت من جانب ذلك المحل الذي دائماً ما يضع قصيدة “في القدس من في القدس إلا أنت”، بصوت صاحبها الشاعر الشاب تميم البرغوثي، وما إن تسمعها حتى تشعر بحاجتك للبكاء، وحين تدرك روعتها يترقرق الدمع في عينيك شوقاً، والسوق معتمة والسياح ينشدون ترانيمهم بمناسبة عيد الفصح وسكناج قبل دخولهم السوق يدعون ربهم أن يخرجوا سالمين.
ترى الخوف بأعينهم، يحاولون الخروج من الطريق بأسرع طريقة ممكنة حتى لو اضطروا إلى أن يصطدموا بك، الجنود في مكانهم على أبواب الأقصى، شيء لم يتغير سوى أنني أحترق شوقاً لأرى تلك القبة، أكانت تستفزني، أم تختبر صبري؟
تعمدت أن أسير على مهل، تبدأ القبة الذهبية بالظهور، قبة الصخرة المشرفة بهية الطلة كعادتها.. وأنا لا أصدق بعد أنني في القدس.. كم كنت غريباً في البعد عنها، وكم أعرف نفسي الآن في حضرتها!
التجول في المكان، تفقد البصمات التي تركتها أيام سذاجتي.. الانبهار.. الدهشة.. الحزن.. السعادة.. كلها اجتمعت في عيني على شكل دمعات متتالية، حينها أدركت شوقي الذي يختفي أمام لا مبالاتي برتابة “القدس”!
كم تقتلنا المسافة ويغدر بنا هاجس الحنين! ورغم كل هذا البعد، أحسست بأنني جزء من الصورة، فلا معنى للغربة بين أهل القدس وسكان القدس وشوارع القدس، كم هم طيبون ومنسيون في دكاكينهم وبيوتهم المحاطة بتهديدات الاستيطان!
وعند منعطف بين الأزقة يقابلك جبل الزيتون الذي تعلوه كنيستان، وعلى بعد بضعة أمتار، شرفة تطل على “حائط البراق” وتعلو الحائط الصخرة المشرفة؛ حيث صعد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء على ظهر البراق حين أُسريَ به من مكة المكرمة.
وتواصل طريقك متعرجاً صعوداً وسط هتافات الباعة ينادون على أكياس الخبز والكعك، وسرعان ما يغمرك شعور أقرب إلى الخشوع لما تحمله هذه الأزقة المتعرجة من تاريخ موغل في القدم، تكمل صعود الدرج؛ حيث نسيت طريق العودة، وأستمر في السير وكلما توغلت أكثر في المكان ازداد عدد الأجانب والمستوطنين.
قرأت معلومات تختلف عما درسناه في مواد التاريخ، بأسماء عبرية، السائحون يتكلمون غير الإنكليزية.. بدأت أتحسس فراستي في تمييز وجه عربي، لكن لا أحد، غير تاريخ مزوّر يعرض على سمع السائحين بلغات متعددة.
عيون تنظر إليَّ باستغراب! أشك بأنني أضعت الطريق!
عدت أدراجي على ذات الاستقامة دون أن أنزل الدرج، شكل المحلات مختلف عما رأيته، تبدو أكثر زجاجية من تلك المنتشرة في شوارع القدس الأخرى التي مشيتها، وتبدو جديدة أيضاً، لم يحفر التاريخ في جنباتها لوناً عتيقاً أو بخوراً.
ألوانها متشابهة، ومعنونة بالعبرية.. ما زلت أمشي وقلبي ينبض بسرعة خوفاً ممن تركتهم خلفي وعلى جانبي، حتى وصلت شارعاً معالمه مختلفة، نظرت على يميني، تمعنت بوجه صاحب المحل، لن أفلت من تحديقي به فغامرت السؤال “انت عربي؟”.. ارتاح قلبي بـ”آه”؛ لأنك إن اختنقت فلن تجد مَن ينعشك، حدثته بما رأيت وشعوري بالضياع، فأكد لي بكلمة: “هاي حارة اليهود” ودلنّي على الطريق.
البكاء، رياضة العيون اليومية التي تخفف من عبء القلب، بعض من البكاء على فقدان هنا وهناك، بعض منه على قصص تبدو من طولها أن عمرنا سينتهي قبل أن ننهيها، وبكاء على لحظات لا تهم غيرنا، نبكيها بصمت دون أن نخبر أحداً، صوتنا الداخلي يصرخ أن كلمة كانت ستغير مسار حديث كامل، لا بل نظرة، حكاية كاملة كانت ستتخذ مساراً مختلفاً، لو أن تلك الكلمة أو النظرة تواجدت، ولكنها لم تكن، فماتت البذرة في مهدها.. دون أي محاولة إحياء ممكنة.
انزع معطفك وسِر على طرف الطريق، على الطرف الخطر منه، لن تجد نفسك إلا في لحظات الخطر، الأمان وهم، الأمان مخدر لكل خلايا جسمك، في مساحة الخطر نتغير، ونتبدل، نمنح لحياتنا معنى آخر، في لحظة الخطر على صعوبتها، نولد نحن، يولد كائناً صغيراً بداخلنا يعيد تعريفنا من جديد، لا يولد بالأمان، يولد بتلك اللحظات الخطرة وقت سيرنا على طرف الطريق الخطر.
واو العطف ولعنتها، حين تكون في البداية، إن كان هناك بداية أصلاً، كل كلمة معطوفة عما قبلها، كل ضحكة معتمدة عما سبقها، كل تفسير كان حتماً يتبع مواقف مررنا بها مسبقاً، واو العطف ولعنتها بكل شيء، نحن وكل أفكارنا ومشاعرنا وتفسيراتنا لسنا أكثر من أمور معطوفة عما قبلها، هذا النص معطوف على نص قبله، وسيعطف عليه نص بعده حتى لو لم يكتب علانية، هذه الحياة بائسة بصغر حجم واو العطف الذي يحرك مجريات الأمور ويعطف ما يريد على ما يريد دون إدراك منا.
قد يصارحك أحد بمشاعر الحب، والكره، والحقد، وغيرها، ولكن ستمنعنا الأنا اللعينة حين نرغب بالصراخ بالشعور بالحاجة، الاحتياج إلى شخص ما، شيء ما، الأنا ستوقفنا، هذا الاحتياج حين يظهر ولا يجد حاضناً ستجده متجمداً في دمنا طيلة الوقت، تعيده لنا لحظات اللاسلام في مخيلتنا كما هو، تعيده مراراً وتكراراً حتى نحفظ رائحته، فندرك مجيئه قبل وصوله بخطوات، والاحتياج واسع، وأنا لا أحتاج إلا لصديق أصمت في وجوده فيفهم شكواي من عيوني، لا أتقن الكلام عما أشعر به، هذه إحدى معضلات حياتي، ألتف كثيراً في إيصال شعور ما، فكرة ما لأحدهم؛ لذلك أنا لا أحتاج سوى لجلسة صامتة يفهمني فيها من أمامي، دون شرح مفصل.
هذه الكتابة هي هروب، هروب معلن من بكاء متراكم مؤجل، لا أريد أن أبكي وأريد أن أمنح روحي وقتها الكافي، لكن في داخلي أدري أن كل الأشياء لن يكتمل طعمها كما كان، الفقدان مر، هذه الكتابة هي هروب معلن، من بكاء طويل، ليس فقط على من غابوا غيابهم الأبدي، بل على من غير الفقدان المسافات بيننا وبينهم من الأحياء.
اليوم هو الخمسون بعد الألف الثالثة، لماذا نبدأ التأريخ بميلاد أحدهم بدلاً من ميلادنا نحن؟ من قرر أن من حق أحدهم فرض كل هذا الرقم علينا؟ رغم وجود من كان قبله من دونه؟ هل يمارس ذلك الرقم ضغطاً ما علينا دون أن نشعر؟ أسئلة كهذه كانت تقلقني في كل مرة أبدأ فيها صفحة جديدة في كشكول المدرسة، أو حتى دفتر مدوناتي، كم الأشياء التي يمليها علينا الموتى تقتلنا نحن الأحياء، لكن لا أحد يهتم.
الموتى يظلون موتى في النهاية، والأحياء يعتبرون أنفسهم أمواتاً؛ لذا لا فرق كبير يستحق ولو إعادة النظر.
تطاردني بقية الأسطر، حسناً سأكتب هنا عن التسامح، وهنا عن الحب، وهنا عن النكت الحمقاء التي أسمعها طوال اليوم ولا أتذكر منها أي شيء على الإطلاق، رغم أنني أكثر الناس ضحكاً حينها، يا لَتعاستي!
أطلب فنجان قهوة ثانياً وأبدأ بالرسم، منذ زمن لم أمارس الرسم لكن تبقى الأساسيات في الرأس، بمجرد أن تستعيدها تنطلق ريشتك رويداً رويداً، وفي النهاية يخرج ما تريد.
الأسطر الأخيرة تقلقني كل يوم، ربما أكتب فيها شيئاً قبل النوم، ادعُ الله أن تحمل الحياة لنا شيئاً ما آخر يستحق الكتابة،
دعني أحدثك قليلاً، فلتنصت أو لا تنصت، أغلق أذنيك بأفكارك الذاتية عن مشاكلك أنت، فقط علق عينيك الزائغتين على فمي وراقب حركته الغاضبة أحياناً واليائسة أحياناً والمبتسمة بسخرية أحياناً أخرى.
ارتشف من فنجان يومي رشفة حتى وإن لم تستلذ بها، لم أعد بالمزاج الرائق الذي يسمح لي بتحلية روحك بضحكاتي الصغيرة ومرحي العفوي الذي لطالما أحببته.
لقد دسوا الحزن في ثنايا عمري، بالرغم من كل ما لا يحدث، لا أريد أن أعترف أنني لم أكن ناضجاً بما فيه الكفاية لأدرك الفرق بين الوهم والحقيقة، بين كل ما يمكن أن يحدث وبين ما لا يمكن.
على سفح جبل متخيل من دروس الجغرافيا، كنت أتخيل قمة الجبل حادة جداً بحيث تتسع بيتاً واحداً فقط، هكذا كنت أرسمه، وعلى حافة الجبل أقف وأخاف السقوط.. لكلّ منّا وطنه، لكنّ فلسطين هي أمّ الأوطان.. كُتب علينا عارها، وخلّف وجعها أحزاناً تظهر عميقاً في العيون، نتوارثها جيلاً بعد جيل.
يافا، حيفا، عكا، قيسارية، الجولان، رأس الناقورة، صفد، الناصرة، طبريا، جنين، طولكرم، بيت لحم، غزة، أم الرشراش، قلقيلية، الخليل، بئر السبع، النقب، المجدل، أريحا، جبل الكرمل وجبال الجليل والقدس والخليل، البحر الميت والبحر العايش ودير ياسين ولفتا والقسطل وكل مدن وقرى ومخيمات فلسطين والانطلاق سيكون من عاصمة قلبي وعاصمة فلسطين.
هافينغتون بوست عربي