أبو يعرب المرزوقي
في نفس اليوم الذي قبض فيه على جراية، لم ينطل علي الكلام على محاربة الفساد. فمن له دراية بمعناه وبمداه في بلادنا يعلم استحالته. هل يقاوم نفسه؟
لذلك وصفت الأمر بما يطابق حقيقته: معركة بين مافيتين، إحداهما تستقوي بما يسمى دولة. و”ما يسمى دولة” أصح فنحن كعرب ليست دولنا دولا، بل محميات.
وقس الجميع على تونس. “تسردك” سفير فرنسا وذباب النخبة السياسية وما يسمى بالثقافية وراء “سكر” السفارات، يعلم إلى أي درك وصل العرب: محمية المتسولين.
أحمد الله أني رحلت من وسط العاصمة. ذلك ان سفارة فرنسا حكمت على القاطنين هناك أن يذوقوا الأمرين حتى يصلوا لأجل عيون المقيم العام الفرنسي. ومع ذلك، ما زال “الطش” يصلني كلما تفقدت بيتي الذي هجرته، حتى لا ارى أي حد بلغ من يتكلمون على هيبة الدولة حتى يرضى عنهم المقيم العام.
ليس هذا غرضي لكن الحديث ذو شجون.
غرضي أن أتكلم في الفساد الذي عم حتى بلغ “الميتاستاز” في كل أجهزة الدولة المزعومة. وسأتكلم في أكثره ظهورا. لن أتكلم على “الأفاريات الدخلانية ولا البرانية” بلغة مالطة، سأكتفي على علل إفلاس “الدولة” وكل شركاتها العامة وأدوات عملها التي تحلب الشعب.
لما كنت مباشرا، أي قبل التقاعد، كنت أعجب من ظاهرة الفساد البنيوي في التعليم العالي: فلو راجعوا “قلم” الساعات الزائدة فحسب لوجدت ألف جراية. فساعات النافذين الزائدة: فهم لا يؤدون واجبهم، وينالون جزاء النوافل. والنوافل لا تحصل مثل الفروض، لكنها تبلغ أحيانا عشرين ساعة تزيد ولا تنقص. ولما كان ذلك يمر بكتابة عامة وبعمادة وبرئاسة جامعة وبمصلحة في الوازرة وتفقد مالي، فإن حصوله لا بد أن يفيد التواطؤ العام في الوزارة كلها.
وهذا مثال وهو ليس أكثرها كلفة. وما أظن الوزارات الأخرى أقل فسادا وتواطؤا. ولما كان عدد الوزارات في تونس أكثر من أمريكا والصين، فافهم الداء. فإذا أضفت أن عدد الوزراء يتجاوز المائة بحسبان الحاصلين على العنوان والمتقاعدين أطال الله في عمرهم، علمت أحد أسرار إفلاس الضمان الاجتماعي.
ولنأت الآن إلى التوظيف في الإدارة والشركات التي تسمى وطنية. فهي “ضيعات” مافيات النخبة النافذة التي يعمل فيها ابناؤهم بالوراثة وبضعف حاجتها، فما من شركة “وطنية” لا يعمل فيها على الأقل ضعف حاجتها من الموظفين والعملة، وهو سر إفلاسها كلها من الطيران إلى الحديد إلى شركات النقل. وهذا التثقيل على الشركات والمؤسسات، بطالة مقنعة يستغل النافذون فيها البقرة الحلوب للسرقة “الشرعية” فلهم ولأقربائهم مدخول، وليمت الباقي جوعا. ويصادف أحيانا فأزور مصالح مؤسسات التقاعد والضمان الاجتماعي، فأرى جيشا يمكن القول إن كلفة ظاهرة الارتزاق منه عليه، ذات سهم كبير على إفلاسه. لم يكفهم ذلك، يفكرون فيما يسمونه التخلص من المركزية، وسيؤدي ذلك إلى مضاعفة ما يسمى إدارة وهو في الحقيقة ضرع الحلب دون خدمات حقيقية.
أما الفساد الذي يتعلق بثروات البلاد الطبيعية، وحتى الصناعية، فحدث ولا حرج: يكفي أن تعلم أن الرخص والبتّات ومعاملات “الدولة” تقسم على الحبائب. وحتى المسؤوليات المحلية والجهوية، فهي توزع بحسب موازين القوى بين المافيات النافذة وما سهم الأحزاب فيها بعد الثورة إلّا رأس جبل الجليد حقا. لذلك لم انتظر افتضاح أمر الحملة على الفساد المزعومة لأقضي بأن الأمر خدعة. فالفساد بلغ الميتاستاز، والتطهير يجعل معدل البطالة إلى ثلاثين في المائة، فجهاز الدولة والشركات الوطنية -النقل والماء والكهرباء- لا يمكن أن تصبح سليمة ورابحة إلا إذا تخلصت من نصف موظفيها. خسارتها هي علة مديونيتها.
أما الكلام على الاقتصاد الموازي دون بيان أن القيمين على الدولة لهم فيه يد، فهو من المغالطات التي فضحها ابن خلدون: المافية تحكم وتتاجر في آن. وهي تفعل لعلتين:
– الأولى لأن الشركات الوطنية والدولة لم تعد كافية لتوظيف جماعتهم.
– وثانيا لأنهم حريصون على بقاء البقرة وشركاتها ليحلبوهما.
فالدولة تستعير وتتداين لتوظيف نصف جماعتهم، والنصف الثاني يموله سرقة نصف الاقتصاد، وهكذا تكون الدولة المزعومة ضيعة للحزب الحاكم والاتحادين.
خمس مافيات بينة للجميع:
1. من بيدهم الحكم
2. من بيدهم السوق الموازية
3و4. الاتحادان
5. والطبالة من المتكلمين على هيبة الدولة ومقاومة الفساد.
ولا بد لهم من سند حتى يطمئنوا إلى أن الأمور لن تخرج عن السيطرة. فلا معركة المناجم ولا معركة الكوامير يمكن أن تغير شيئا لعلل كثيرة أهمها من بيدهم السوق الموازية.
الأولى هي مصلحة الحامي، والثانية هي ما ناب به عليهم ربهم، ويسمونه الحرب على الإرهاب. وكلاهما مستفيد من الهبة الإلهية ثمرة الغباء والاصطناع.
الهبة ثمرة غباء الحركات التي تقوم بهذه الأعمال، جلها في خدمة المهربين والدراويش الذين يعتقدون أن التاريخ العظيم يحققه “بني بني” المراهقين، والاصطناع يخترقها إلى النخاع بمن يوظفهم للإبقاء على تلك المافيات الخمس التي تمتص دماء الشعوب، فلا يبقون لها حتى الاحتجاج، فقد يتهمون بالإرهاب.
في نفس اليوم الذي قبض فيه على جراية، لم ينطل علي الكلام على محاربة الفساد. فمن له دراية بمعناه وبمداه في بلادنا يعلم استحالته. هل يقاوم نفسه؟
لذلك وصفت الأمر بما يطابق حقيقته: معركة بين مافيتين، إحداهما تستقوي بما يسمى دولة. و”ما يسمى دولة” أصح فنحن كعرب ليست دولنا دولا، بل محميات.
وقس الجميع على تونس. “تسردك” سفير فرنسا وذباب النخبة السياسية وما يسمى بالثقافية وراء “سكر” السفارات، يعلم إلى أي درك وصل العرب: محمية المتسولين.
أحمد الله أني رحلت من وسط العاصمة. ذلك ان سفارة فرنسا حكمت على القاطنين هناك أن يذوقوا الأمرين حتى يصلوا لأجل عيون المقيم العام الفرنسي. ومع ذلك، ما زال “الطش” يصلني كلما تفقدت بيتي الذي هجرته، حتى لا ارى أي حد بلغ من يتكلمون على هيبة الدولة حتى يرضى عنهم المقيم العام.
ليس هذا غرضي لكن الحديث ذو شجون.
غرضي أن أتكلم في الفساد الذي عم حتى بلغ “الميتاستاز” في كل أجهزة الدولة المزعومة. وسأتكلم في أكثره ظهورا. لن أتكلم على “الأفاريات الدخلانية ولا البرانية” بلغة مالطة، سأكتفي على علل إفلاس “الدولة” وكل شركاتها العامة وأدوات عملها التي تحلب الشعب.
لما كنت مباشرا، أي قبل التقاعد، كنت أعجب من ظاهرة الفساد البنيوي في التعليم العالي: فلو راجعوا “قلم” الساعات الزائدة فحسب لوجدت ألف جراية. فساعات النافذين الزائدة: فهم لا يؤدون واجبهم، وينالون جزاء النوافل. والنوافل لا تحصل مثل الفروض، لكنها تبلغ أحيانا عشرين ساعة تزيد ولا تنقص. ولما كان ذلك يمر بكتابة عامة وبعمادة وبرئاسة جامعة وبمصلحة في الوازرة وتفقد مالي، فإن حصوله لا بد أن يفيد التواطؤ العام في الوزارة كلها.
وهذا مثال وهو ليس أكثرها كلفة. وما أظن الوزارات الأخرى أقل فسادا وتواطؤا. ولما كان عدد الوزارات في تونس أكثر من أمريكا والصين، فافهم الداء. فإذا أضفت أن عدد الوزراء يتجاوز المائة بحسبان الحاصلين على العنوان والمتقاعدين أطال الله في عمرهم، علمت أحد أسرار إفلاس الضمان الاجتماعي.
ولنأت الآن إلى التوظيف في الإدارة والشركات التي تسمى وطنية. فهي “ضيعات” مافيات النخبة النافذة التي يعمل فيها ابناؤهم بالوراثة وبضعف حاجتها، فما من شركة “وطنية” لا يعمل فيها على الأقل ضعف حاجتها من الموظفين والعملة، وهو سر إفلاسها كلها من الطيران إلى الحديد إلى شركات النقل. وهذا التثقيل على الشركات والمؤسسات، بطالة مقنعة يستغل النافذون فيها البقرة الحلوب للسرقة “الشرعية” فلهم ولأقربائهم مدخول، وليمت الباقي جوعا. ويصادف أحيانا فأزور مصالح مؤسسات التقاعد والضمان الاجتماعي، فأرى جيشا يمكن القول إن كلفة ظاهرة الارتزاق منه عليه، ذات سهم كبير على إفلاسه. لم يكفهم ذلك، يفكرون فيما يسمونه التخلص من المركزية، وسيؤدي ذلك إلى مضاعفة ما يسمى إدارة وهو في الحقيقة ضرع الحلب دون خدمات حقيقية.
أما الفساد الذي يتعلق بثروات البلاد الطبيعية، وحتى الصناعية، فحدث ولا حرج: يكفي أن تعلم أن الرخص والبتّات ومعاملات “الدولة” تقسم على الحبائب. وحتى المسؤوليات المحلية والجهوية، فهي توزع بحسب موازين القوى بين المافيات النافذة وما سهم الأحزاب فيها بعد الثورة إلّا رأس جبل الجليد حقا. لذلك لم انتظر افتضاح أمر الحملة على الفساد المزعومة لأقضي بأن الأمر خدعة. فالفساد بلغ الميتاستاز، والتطهير يجعل معدل البطالة إلى ثلاثين في المائة، فجهاز الدولة والشركات الوطنية -النقل والماء والكهرباء- لا يمكن أن تصبح سليمة ورابحة إلا إذا تخلصت من نصف موظفيها. خسارتها هي علة مديونيتها.
أما الكلام على الاقتصاد الموازي دون بيان أن القيمين على الدولة لهم فيه يد، فهو من المغالطات التي فضحها ابن خلدون: المافية تحكم وتتاجر في آن. وهي تفعل لعلتين:
– الأولى لأن الشركات الوطنية والدولة لم تعد كافية لتوظيف جماعتهم.
– وثانيا لأنهم حريصون على بقاء البقرة وشركاتها ليحلبوهما.
فالدولة تستعير وتتداين لتوظيف نصف جماعتهم، والنصف الثاني يموله سرقة نصف الاقتصاد، وهكذا تكون الدولة المزعومة ضيعة للحزب الحاكم والاتحادين.
خمس مافيات بينة للجميع:
1. من بيدهم الحكم
2. من بيدهم السوق الموازية
3و4. الاتحادان
5. والطبالة من المتكلمين على هيبة الدولة ومقاومة الفساد.
ولا بد لهم من سند حتى يطمئنوا إلى أن الأمور لن تخرج عن السيطرة. فلا معركة المناجم ولا معركة الكوامير يمكن أن تغير شيئا لعلل كثيرة أهمها من بيدهم السوق الموازية.
الأولى هي مصلحة الحامي، والثانية هي ما ناب به عليهم ربهم، ويسمونه الحرب على الإرهاب. وكلاهما مستفيد من الهبة الإلهية ثمرة الغباء والاصطناع.
الهبة ثمرة غباء الحركات التي تقوم بهذه الأعمال، جلها في خدمة المهربين والدراويش الذين يعتقدون أن التاريخ العظيم يحققه “بني بني” المراهقين، والاصطناع يخترقها إلى النخاع بمن يوظفهم للإبقاء على تلك المافيات الخمس التي تمتص دماء الشعوب، فلا يبقون لها حتى الاحتجاج، فقد يتهمون بالإرهاب.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.