الحبيب بوعجيلة من رسالته المفتوحة إلى كلامه غير الهادئ
الرسالة المفتوحة، كان قد توجه بها إلى زعيم حركة النهضة يدعوه فيها إلى استخدام ما لديه من نفوذ معنوي وروحي في أوساط الكثير من الإسلاميين للتخفيف من حدة النقد والعداء الموجهين للنظام السوري خشية أن يفهم ذلك على أنه غطاء شرعي للقوى الإستعمارية لاستهداف الأراضي السورية، ولم يفته في رسالته تلك أن يذكر بـ”فضائل” النظام السوري الذي “غض الطرف عن مقاومة عراقية عربية ساهمت في هرسلة الغزاة الأمريكيين لبلاد الرافدين”، متناسيا أن النظام السوري بقيادة “الأب” هو من ساهم مع القوى الإمبريالية في تدمير العراق.
كثيرون فهموا من تلك الرسالة أن المثقف الحبيب بو عجيلة، على أعتاب تحول نوعي في موقفه من الربيع العربي، وأنه قاب قوسين أو ادنى من الجبهة التي تعتبر الربيع العربي “مؤامرة امبريالية ضد الأمة العربية”. فكانت رسالته تشكل تراجعا عن مواقف مبدئية من الحرية ومن الأنظمة الإستبدادية، فكان كمن يقوم بمراجعات توشك “أن تعصف بتاريخه”، أكدتها اليوم تدوينته الأخيرة، وإن حاول صاحبها أن يظهر فيها بمظهر “الهادئ جدا “، هدوء يخفي بركانا من الغضب حيث وجه رسالته هذه المرة إلى عموم أبناء حركة النهضة، تضمنت نقدا تراوح بين التلميح والتصريح بسبب غضبهم على ما يوجه إليهم من نقد، فبدا وكأنه على على مشارف قطيعة مع رفاق الأمس (جمعهم الإستبداد وفرقتهم الحرية). غضب يراه كفيلا بتحويلهم إلى “نسخة سيئة وغير لائقة من الأساليب البالية للنظم المتهاوية التي يحاول هو نفسه إنقاذها في سوريا. ومما يعجل عنده بالحاق النهضة بالنظم المتهاوية، حديثها عن “مؤامرة” و”أطراف خفية” فيما يتعلق بالأحداث الواقعة في الجنوب التونسي.
صاحب “الكلام الهادئ”، يذكرنا بذات المصطلحات التي استعملها مخاليع العرب، بما يوحي وان النهضة قد لبست “جبة” النظام البائد في ممارساته وفي أسلوب تعامله مع مخالفيه، وهو ذات النقد الذي يوجهه معسكر الإستئصال لإيهام الناس بأن ثورة ثانية قد حان وقتها ضد من جاءت بهم الديمقراطية. إذا كانت الثورة على الإستبداد مفهومة ومبررة، فما الذي يبرر الثورة في سياق ديمقراطي يتسع لكل أشكال الإحتجاج السلمي والمعارضة، ويفتح أفقا للتداول السلمي على السلطة للجميع دون قيد أو شرط؟ فالديمقراطية التي جاءت بهؤلاء يمكن أن تأتي بغيرهم. تعسف في مقارنة لا تجوز أصلا، لا السياق ولا المرحلة، ولا المشهد يسمح بهكذا مقارنة إلا على رأي المتحفزين للإنقلاب على المسار الديمقراطي (وسي الحبيب في كل الأحوال ليس منهم).
إنه ينتقد أصدقاء الأمس القريب والبعيد لسرعة غضبهم على ما يوجه إليهم من نقد فما الذي يغضبه عندما ينتقدونه ؟ ولماذا يعتبر نقده “كلاما هادئا”، فيما يعتبر نقد غيره غضبا؟ أليس من حق مخالفيه ان يعتبروا نقده هذا نوعا من إضفاء الشرعية على الإمعان في استهدافهم وتبريرا لحملات التحريض ضدهم والتي لا تتوقف أبدا ؟ لم يستسغ سي الحبيب فكرة المؤامرة في هذا المقام ولكنه يسمح لنفسه بتقديمها كمسوغ في تحوله المفاجئ إلى “جبهة الممانعة”، بما أن “الأمة مستهدفة من الإمبريالية”، ويتناسى أن الأمة مستهدفة من الإستبداد، وأن مواجهة المخططات الإستعمارية لا تجيدها الشعوب المقهورة. وان أنظمة الإستبداد لا تصلح لقيادة مثل تلك الحروب، لأنها أصلا هي من تشرع للتبعية والإحتلال. فهي المشكل وليست الحل مهما رفعت من شعارات كاذبة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” ثم إن “سي الحبيب” يعرف جيدا حجم المؤامرات التي دبرتها وما زالت تدبرها الثورة المضادة لتصفية الثورة والإنقلاب على استحقاقاتها. فما الذي يجعله يستغرب وجود مؤامرة في “الكامور”؟ و لماذا تحول الإعتصام من سلمية حشدت حولها الرأي العام في الداخل ولفتت انتباه آخرين في الخارج، إلى حالة من العنف ؟ وبنفس منطقه نتساءل: ألا يبدو الحبيب بوعجيلة “نسخة سيئة” من المعارضة الإستئصالية التي تبذل مجهودا خارقا في ترذيل خصومها اكثر من اجتهادها في بلورة مشاريعها؟
سي الحبيب يعيب على رفاق الأمس البعيد والقريب (زمن الجمر وزمن التداعي للإنقلاب على الشرعية)، يعيب عليهم “استعدادهم للقيام بمراجعات قد تعصف بتاريخهم النضالي”. ليست المراجعات هي التي تعصف بتاريخ الأفراد والجماعات لانها نوع من النقد الذاتي اللازم لتصحيح المسار وتوضيح الرؤية وتحرير الفعل البشري مما علق به من أخطاء. ما يعصف حقيقة بتاريخ المناضلين تراجعهم عن مبادئ وثوابت لا تقبل المساومة كالتوق للحرية والإنحياز للحق والعدل. وهي مبادئ ليس لها مقابل ولا عوض مهما كانت قيمته.
يبدو أن تناقضات الواقع التونسي انعكست على الشخصية التونسية حتى أصبح التناقض سمتها البارزة يبدو ذلك جليا بين موقف وآخر وحجة و أخرى لان الدافع لم يعد البحث عن الحق لاتباعه وتحري الباطل لاجتنابه وإنما البحث عن طهارة الذات ونقائها وترذيل المخالفين مهما كان الثمن.