تدوينات تونسية

الحياة الخالية من التكلف

محمد الناصر رابحي

هو دكتوراه علوم انسانية، رجل خمسيني أو يزيد قليلا، زاده المعرفي يماثل حجم مكتبة بغداد، موسوعي شمولي، له بحوث في مجالات عديدة، ما بين تربية أطفال وعلوم رياضية وحتى الطب النفسي..

تعرفته ذات مقهى شعبي، ثم توطدت علاقتنا يوما بعد يوم، وقهوة بعد قهوة، رجل مليئ بالتجارب والخبرات.. أطنبنا ذات مرة الحديث عن الحياة ومعنى الحياة والهدف الأسمى في الحياة وأهدافنا فيها وأحلامنا بين موؤودة ومتحققة، وأعرافنا في المجتمع التي ترسم لنا طريقا موحدا في الحياة.. قال لي، الحياة بالنسبة لي أن أعيش سعادتي، أن أبحث عن مواطن سعادتي.. المال لا يعني السعادة، الزواج أيضا هو لا يعني السعادة!! جربت الزواج ذات مرة، وباء بالفشل، زواجي كان من فتاة أحببتها بصدق وأحبتني، جميلة، ذات دين وخلق، لكن همها تحصيل المال وهمي أن أعيش معها في سعادة حتى وان بت على الخواء، المال والطعام أشياء ثانوية جدا، جربت أن يكون بين يدي مئة مليون كما جربت أن أكون معدما، الامر سيان، بل أن المال لم يحقق سعادتي المنشودة، تلك النشوة التي تعتريك، المال بهرج اجتماعي ومضلل عن طريق السعادة، المال يشتري لي سيارة، يضمن لي عيشا كريما، لكنه لا يشتري فرحة، لا يشتري السعادة.. لي بيت، لكنه فقط بهرج رمزي، فأنا أخرج منه صباحا ولا أعود اليه الا عندما ينتصف الليل، أقضيه فيه مرغما ما بين ست وثماني ساعات من يومي الحافل جدا، فيه الكهرباء والماء والانترنيت، فيه من أرقى التجهيزات وأغلاها لكني أفضل بيتا بسيطا، غرفة واحدة صغيرة، وثوبين أو ثلاثة على أقصى تقدير.. أكره أن أمضي عمري في تحصيل المال ثم في الأخير أصرف بعضا منه لستر شيخوختي، أخاف ان كبرت أكثر، أن أكون طريح ركن في البيت، مفكرا مرة تلو الاخرى في الأشياء المصيرية التي لم أفعلها، أنا أعمل ما أحبه فقط، لا أريد أن أقيد نفسي بعمل لا أطيقه في نفسي، وربما لا أتقنه، فقط ما أريده..

سنتين مضت على آخر لقاء جمعني به، جمعتني به محاسن المقادير مرة اخرى في المقهى نفسه.. كان في الخارج، يسافر من بلد الى بلد، أخبرني أنه تزوج، وله ابن أيضا، وفي سؤال بريء سألته: لكن الزواج والابناء ضد فلسفتك، فقال: ومن أخبرك أني غيرتها، في جولة لي في بيروت ومقاهيها صادفت امرأة تعرفتها في مقهى راق، لها دكتوراه أيضا، وتحمل أفكاري، ناهيك أنها رفضت الزواج مرارا لانه يلهيها عن سعادتها الحقيقية، الزواج المجرد، أو الزواج العامي، هو مجرد بيت وأطفال بالنسبة للعامة، لكنه في الواقع أرقى من ذلك، الزواج يجب أن يكون من متممات السعادة، أن تبقى صباحا في الفراش متدثرة ومحتضنة زوجها وتنظر في عينيه فقط، هي لا تهمها أيضا بهارج الحياة من حلية وثياب، البساطة جميلة، ودت لو أنها تعيش فقيرة، فقرا حقيقيا، ثياب بالية، بيت بسيط.. تزوجنا ونحن الآن سعداء، لم أدخل مطعما منذ زمن، وهي كذلك، بعض الخبز على العشاء يكفينا، نمضي ليلتنا ما بين لعب صبيان وعبادة الرحمان، وأتم سعادتنا هذا الطفل الصغير، أريده أيضا أن يعيش حياة بسيطة جدا، لا أريده التكلف في حياته.. مؤخرا زوجتي تعلمت من جارة لنا من نزوح الريف كيف تصنع حفاضات من القماش للطفل، مع قدرتنا على شراء الحفاضات، لانها تعتقد ان الحياة الخالية من التكلف أكثر سعادة، الحياة البسيطة..

في الحقيقة الحديث الذي دار بيننا أكثر من هذا، لكني فقط أوردت ما قدرت على تذكره، لكني رأيت في هذا الرجل الشخص الوحيد الذي تنصل من أعراف المجتمع القاسية، الشخص الوحيد الذي اتبع سبيل سعادته على أن يتبع المرسوم الاجتماعي، وسألته ذات مرة: “عندما يحدثني شخص ما عن تجربته، في أخر كلامي يقول لي أنصحك ان تتبع سبيلي، لكنك سردت علي تفاصيل دقيقة من حياتك ولم تقل لي اتبعني أو هذا هو السبيل الصحيح ومعجم التفضيل والتخيير” فأجابني، بأن الحياة الفردية هي نتاج اختيارات فردية، واعتقادات شخصية، لا أستطيع أن املي عليك اختياراتي، طريقي وطريقك لا يتماثلان حتى وان تماثلنا في الافكار، هناك دائما تلك اللمسة الشخصية، ذوق الفرد..

يمضي الفرد منا في حياته في العمل الدؤوب صباحا مساء، ينسى نفسه في هذه الحياة، ينسى انه ولد ليعيش ويترك أثرا وليس ابنا فقط او بناية، أعمتنا زينة الحياة، لكننا نحس انفسنا مجبرين على هذا الطريق، الانصياع للمراسيم الاجتماعية، كان لي في ما مضى صديق يكبرني بعشر سنوات، اخذ يستعد لزواجه، اخبرني انه معدم الان ولا يملك مالا كافيا، فقلت له لماذا لا تتزوج زواجا بسيطا، وليمة وبعض الاقارب المدعوين لا “زكرة لا طبال !!” فقال لي هذه يجب ان يفعلها أحد الموسرين قبلي حتى نستن بسنته ولكني مقيد بالعرف الاجتماعي… لم أع وقتها كلماته لكني وعيتها الان، عندما يخنقك ناموس المجتمع، ناموس لا يتوقف عن خنقنا كلما تقدمنا في العمر أكثر.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock