منظومة: «العالم كرقعة شطرنج»..
مهدي الغول
كنتُ في ندوة فكرية للكاتب الأنيق الأستاذ بشير العبيدي، قدّم لنا فيها كتابه الجديد، عندما سأله أحدُهم:
”قُلْ لي، وباختصار، أنت.. ما هو موقفك من أحداث سوريا؟”، ردّ الأستاذ: ”أنا مع الشعب السوري الضعيف المطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية”، فقال له ”إذن أنت مع داعش وأمريكا…!”. فقال الأستاذ: “لا طبعا لست مع داعش وأمريكا”، ”إذن أنت مع بشار!”، قاطعه الكاتب الرقيق: ”لست مع بشار، بل أعتبره مجرما”، فقال صديقنا المستعجل: ”أنت يا إما مع بشار البطل أو ضده، لا يوجد شيء آخر”!!
هذه الطريقة في التفكير تشكّل معضلةً كبرى في الوطن العربي، وهي منتشرة بصفة ملفتة للنظر.
هي طريقة تنظر للعالم على أساس مربّعات شطرنج، إما (خير/حق/جمال) محض، وإما (شر/باطل/قبح) صافي.. إما مجتمعًا ملائكيا او شيطانيا، لا وجود للمرتبة بين المرتبتين، ولا للتدرج اللّوني ولا للرمادي. وبالتالي فكل فكرة أو موقف أو إنسان يجب أن يصنف ويوضع ضمن الخانة السوداء أو في الخانة البيضاء.
هذه الظاهرة الفكرية التي تحكم العقل العربي، بِنِسب متفاوتة، لاحظها المفكر الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري، وسماها الثنائيات الصلبة وربطها بعقيدة التّثْنِية المخالفة لعقيدة التوحيد، ولاحظها المفكر البشير العبيدي وسمّاها سجنًا (سجن التفكير الثنائي)، ولاحظها الباحث سامي ابراهم في دراسته للجماعات المتطرفة الإرهابية.
هذه المنظومة الفكرية هي نفس منظومة الجماعات الدينية المتطرفة، سواءً كانت بديباجات تبريريّة إسلامية أو مسيحية أو يهودية أو حتى مُلحدة ذات مقدمات إنسانية ومَنحى اجتماعي. هي طريقة في التفكير ترنو للتبسيط وتنزع نحو السهولة، لذلك تلقى رواجًا لدى بسطاء التفكير وأولئك المبتلون بالكسل الذّهني.
وهي منتشرة لأنّ قوّتها في بَساطتها وسهولة تقبّلها وعدم نُخْبويّتها. وهي مُتاحة للجميع ضمن استراتيجية وثوقيّة مغلقة وقائمة على تقسيم رياضي (صفر/واحد).
هي مبنية على ثنائيات صلبة حادّة وعلى تقسيم مانَويّ إثنيني تبسيطي للعالم والقيم والأفكار والبشر، تجعل من بنية ذهنية مقتنيعيها ومعجم خطابهم يتكون أساسا من ثنائيات: إيمان/ كفر، دار إيمان/دار كفر، أرض دعوة/أرض جهاد، مَعنا/ضدنا، دولة إسلامية/دولة كفرية، بلد ديمقراطي/بلد شيوعي، حداثي/ظلامي…
أُسمّيها أنا: نظرية العالم كرقعة شطرنج، وهي في نظري طريقة خاطئة في الإدراك والتفكير والحكم على الأشياء وتوليد الأفكار. لأن كل ما يخص الإنسان والعلاقات بين البشر يعتبر مركّبًا جدا ونسبيا جدا، فلا يجوز الحكم عليه بتلك الطريقة القطعية والاختزالية، ولولا ذلك لما كان لنا في الفقه الإسلامي شيء اسمه درء أعظم المفسدتين بتحمل أضعفهما، وتحصيل أكبر المنفعتين بتضييع أصغرهما.
علينا أن نبذل جهدا كبيرا لإخراج مجتمعاتنا من هذه الطريقة في التفكير؛ حتى نرفع درجة الوعي بحقائق الأشياء، وهذا يتطلب جهدا كبيرا؛ لأن طريقة الثنائيات طريقة اختزالية سهلة بينما الطريقة المثلى تتطلب التحليل والتركيب والصبر على مرور الوقت.. لكنها هي الطريقة التي نضمن بها خروجنا من الاستيلاب العقلي الذي هو الشرط الأول للنهضة المنشودة!!