أسفاري واللغات الحية (18)
أحمد القاري
فتحت كثير من الشركات مكاتب في الصين لإنجاز مشترياتها ومتابعة أعمال الإنتاج ومراقبة الجودة والشحن.
واستفاد عدد كبير من الأجانب من مناخ ازدهار الأعمال والتجارة في الصين بأن بدؤوا يقدمون خدمات تجارية مختلفة.
أصحاب المكاتب الأجنبية فضلوا اعتماد اللغة الإنجليزية للعمل. وكان ذلك يستدعي تشغيل صينيين يحسنون الإنجليزية إضافة إلى البحث عن صينيين يحسنون لغات الأسواق الوجهة وذلك لتيسير التواصل بغرض التسويق وحل مشاكل الجودة واللوجيستيك وتقديم خدمات تقنية وخدمات ما بعد البيع عموما.
لكن لغة العمل الفعلية التي تفرض نفسها هي دائما الصينية. فالموظفون في التواصل بينهم لا يرتاحون إلا إلى لغتهم الأم. وكذلك هم في تواصلهم مع غيرهم من الصينيين في باقي الشركات والإدارات. وهم يستخدمون برامج المحادثات بكثرة ويكتبون بسرعة برغم أن لغتهم بدون حروف وذلك من خلال أنظمة كتابة استحدثت لحل مشكل الرموز الصينية. ولا تكاد تجد صينيا يستخدم لغة غير الصينية في المحادثات المكتوبة مع صيني آخر.
ويبدو أن الإنجليزية لم تتمكن من فرض اعتبارها علامة رقي اجتماعي على النحو الذي تحظى به في دبي مثلا أو مثل حال الفرنسية في دول المغرب الفرنكفونية.
في الدار البيضاء يعتقد كثير من موظفي الشركات والإدارات أن إلقاء التحية بالصيغة العربية على الهاتف يدل على أن الشخص غير محترف. لذلك يفضلون قول “بونجور” على “السلام عليكم”.
كما يفضلون إعطاء الأرقام بالفرنسية ولو لم يكن السياق يستدعي ذلك. ويساعد واقع الفوترة والمحاسبة وإنجاز كاطالوجات السلع والخدمات وأعمال التسويق بالفرنسية على ترسيخ هذه الظاهرة واستمرارها.
ويؤدي اشتراط تحدث المساعدين الصينيين للغات أجنبية إلى الحد من قدرة المكاتب الأجنبية التي تعتمد لغات غير الصينية في العمل على الحصول على الكفاءات. فالحاجة لإتقان لغة أجنبية تحد من مجال الاختيار وتؤدي إلى التفريط في صفات أخرى أكثر أهمية مثل الخبرة والقيادية والقدرة على العمل مع فريق والاستعداد للاستقرار والصبر على التحسن التدريجي في العمل.
اشتراط إجادة لغة أجنبية تحدثا وكتابة يصعد بأسهم أشخاص ربما كانوا سيحلون في مراتب متأخرة لو كانت عناصر التنافس مقتصرة على المعارف التقنية والمتعلقة بمجال العمل وعلى القدرات المطلوبة لإنجاز مهام الوظيفة المترشح لها.
وقد لاحظت أن التحول إلى اعتماد الصينية كلغة للعمل في المكاتب الأجنبية في الصين يجعل أداءها أفضل وأسرع وفريق عملها أحسن من حيث المهارات والكفاءات. وعند العمل باللغة الصينية يتم الاكتفاء بشخص أو اثنين للقيام بأعمال الترجمة والتواصل المطلوبة بلغات أجنبية حسب الحاجة. فتوضع اللغات الأجنبية ضمن حدود الحاجة ولا تتجاوزها.
نفس الإشكال مطروح في المغرب. فالشركات التجارية والإدارات تركز على إجادة الفرنسية كشرط للتوظيف. وبسبب ذلك تصعد أسهم أشخاص يحسنون اللغة الفرنسية أو يحسنون التظاهر بإجادتها على حساب أشخاص أكثر كفاءة وقدرة على أداء الوظيفة المطلوبة.
ويؤدي اعتماد الفرنسية لغة لمقابلة التوظيف في الشركات والإدارات إلى محاباة من تربوا في وسط فرنكفوني وإن كانوا سطولا على حساب من لا تعد الفرنسية لغته النفسية وربما يكون بينه وبينها حاجز يجعله لا يحسن الرطانة السريعة بها وإن كان يفهم رصيدا مهما منها ويحسن الكتابة به.
ولنتخيل تأثير هذا السلوك في اختيار الموظفين ونوع فرق العمل التي يمكن أن نحصل عليها. ويجب الانتباه إلى أن لعبة إجادة الرطانة بالفرنسية تمكن بعض قليلي الموهبة والقدرات من التسلق في أسلاك الوظائف والقفز من مسؤولية لأخرى دون أن يكونوا ممن يحل المشاكل أو يبدع في إجادة الدور الذي وظف من أجله.
وربما لو تم دراسة أثر السياسة اللغوية المنحرفة على جودة الموارد البشرية وإدارتها في البلدان التي تتكلف الفرنكفونية لوجدنا عجبا.
#لغات_حية 18
الفرنسية المتسلقة