مشروع مصالحة وطنية أم مشروع مصالح حزبية؟
منذ شهر جويليه من سنة 2015 قدّمت رئاسة الجمهورية مبادرة تشريعية تتعلق بالمصالحة الاقتصادية والمالية وذلك لتسوية وضعية العشرات من رجال الأعمال والآلاف من الموظفين وأشباههم ممن تعلقت بهم قضايا فساد مالي واقتصادي.
وبحكم انقلابه على المسار الطبيعي للعدالة الانتقالية وتعبيره عن انحياز “مشبوه” لفائدة الفاعلين الاقتصاديين والإداريين زمن المخلوع، لاقى هذا المشروع معارضة قوية داخل مجلس نواب الشعب وخارجه رغم محاولات الرئاسة البائسة لتمريره باعتباره جزءا من المصالحة الوطنية الشاملة من جهة أولى، وباعتباره من جهة ثانية عامل تحفيز للاستثمار الداخلي وجذب للاستثمار الخارجي، مع الترويج لعدم تعارضه مع مسار العدالة الانتقالية، ومساعدته على تنقية المناخ العام من عوامل التوتر والاحتقان قصد مساعدة الحكومة على التركيز في محور مقاومة الإرهاب.
مشروع رئاسي غير دستوري ولا قانوني
تقترح المبادرة التشريعية الرئاسية إحداث “لجنة” للإشراف على تسوية ملفات الفساد المالي والإداري تسوية نهائية وغير قابلة للطعن حتى بدعوى تجاوز السلطة. وهي عملية يراد لها أن تتمّ خارج مسار التقاضي العادي ومسار العدالة الانتقالية على حد سواء. ومن الواضح أنّ لجنة قائد السبسي لا تختلف كثيرا عن “لجنة” صنع الله إبراهيم في روايته الشهيرة، إذ هي مبتدأ ينتظر خبرا، ولكنه خبر لا يوجد في تاريخ الرئيس وفريقه ما يجعلنا نتفاءل بشأنه خيرا. فكيف يمكن للجنة -بدعوى تسريع الإجراءات- أن تكون قانونية أو “دستورية” وهي تستولي واقعيا على مهام هيئة الحقيقة والكرامة وتعطّل الفصل 14 من القانون الأساسي المنظم للعدالة الانتقالية والذي يهدف إلى “تفكيك منظومة الفساد والقمع والاستبداد ومعالجتها بشكل يضمن عدم تكرار الانتهاكات واحترام حقوق الإنسان وإرساء دولة القانون”.
لا شك في أنّ مسار العدالة المرتبط بلجنة “قائد السبسي” يعارض هذه الفلسفة التأسيسية للجمهورية الثانية لأنه يُكرّس تغوّل السلطة التنفيذية (وتحديدا مؤسسة رئاسة الجمهورية التي لم تُخف رغبتها في العودة إلى النظام الرئاسي) حتى على حساب رئاسة الحكومة التي أصبحت مجرد ملحق بالقصر الرئاسي على عكس ما يقتضيه الدستور، فضلا عن تغوّل الرئاسة على السلطتين التشريعية (برفض وضع اللجنة تحت إشراف مجلس النواب ورقابة نواب الشعب) والقضائية (بانتزاع القضايا من أنظار المحاكم وبتكبيلها بفصل عدم الطعن في قرارات اللجنة حتى بتجاوز السلطة).
مصالحة وطنية… أم ترسيخ للاحقان الاجتماعي؟
تهدف المصالحة الوطنية التي يحتج بها المدافعون عن قانون قائد السبسي للمصالحة الاقتصادية والمالية -كما جاء في قانون العدالة الانتقالية- إلى “تعزيز الوحدة الوطنية وتحقيق العدالة والسلم الاجتماعية وبناء دولة القانون وإعادة ثقة المواطن في مؤسسات الدولة”. إنها غايات ومعاني يُفترض في كل مبادرة تشريعية أن تتحرك تحت سقفها الذي كان محل توافق عريض بين الفرقاء السياسيين. وحتى لو غضضنا الطرف عن تناقض قانون المصالحة مع أسس العدالة الانتقالية وعدم تحقيقه للحد الأدنى من شروطها، فإننا لا نجد في تاريخ/أداء رئاسة الجمهورية والأغلب الأعم من المدافعين عن هذا القانون ما يجعلنا نسلّم لهم بصدق دعواهم في تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة.
كيف يمكننا أن نُصدّق دعاوى من يعتبر تشكيل “اللجنة” دعما لعمل هيئة الحقيقة والكرامة لا انقلابا عليها (وهو الذي لم يخلُ تاريخه من طعن في عمل الهيئة وتجريح في الذمة المالية لرئيستها ومن محاولات متكررّة لتعطيل عملها)، كيف يمكننا أن نصدّق مشروعا يتموضع في إطار “المصالحة الوطنية الشاملة” عندما تُقدمه أطراف لم تنجح في “المصالحة” بين شقوق حزب الرئيس، ولم تنجح في “المصالحة” مع حليفها النهضوي ولا في تجاوز “آثار” الانتخابات الرئاسية الماضية في علاقتها بالرئيس المتخلي وحراكه، كما لم تنجح حتى في المصالحة مع الدستور الذي من المفترض أن تكون هي الضامنة له والقيمة على علويته (لم يُقدّم الرئيس ملفه الطبي ولا تصريحا بممتلكاته كما يفرض الدستور، ولم يقدم الأغلب الأعم من نوابه ووزرائه تصريحاتهم المالية)؟
هل يمكننا أن نصدّق “مصالحة وطنية شاملة” تحاول تسريع الإجراءات الخاصة بتسوية وضعية الجلادين واللصوص وتتفنّن في تعطيل مسار تسوية وضعيات الضحايا (المشمولين بالعفو التشريعي العام والمفروزين أمنيا من الإسلاميين واليساريين)، وهل يمكن للمواطن أن يستعيد ثقته في الدولة وهو يراها تمعن في سلوكها “الانتقائي” القائم على التمييز الإيجابي للمتنفذين من الرأسماليين والإداريين دون باقي الفئات المقهورة والجهات المهشمة؟ وأخيرا، هل من العقلانية أن نثق في أعضاء لجنة سيُقسمون أمام رئيس الدولة على “احترام الدستور والقانون” وهم يعلمون يقينا أنّ وجود لجنتهم ذاته هو نتيجة الانقلاب على مقتضيات الدستور وأحكام القانون، وكيف يمكن تصديق مصالحة وطنية يُشرف عليها وعي جهوي فئوي يحثّ الخطى نحو إعادة إنتاج المنظومة النوفمبرية ذاتها لكن بـ”شعارات” وتبريرات جديدة؟
استرجاع الثقة.. لكن ثقة مَن؟
من أهم الحجج التي قدمتها رئاسة الجمهورية للدفاع عن مشروع قائد السبسي للمصالحة الاقتصادية والمالية هي أنه يساهم في استرجاع ثقة المستثمرين في الدولة التونسية بحيث يمكن اعتبار “قانون السبسي للمصالحة” عامل جذب للاستثمار لأنه سيزيل عوامل “الطرد” التي كانت تعرقل هذه الغاية. من هذا المنظور السلطوي فإنّ “طي صفحة الماضي” (خارج مسار العدالة الانتقالية وبعيدا عن دورها المتعلق بـ”كشف الحقيقة” وبتحديد المسؤوليات القانونية والسياسية لرموز الاستبداد السياسي والفساد الإداري والمالي، وبعيدا كذلك عن دور الهيئة في تفكيك شبكات الفساد والرعاية المتبادلة -المهيمنة في الدولة الريعية على العلاقة بين الإدارة ورأس المال- ومنع إعادة إنتاجها)، ستساعد في “تحسين مناخ الأعمال وتشجيع الاستثمار”.
إننا أمام خطاب سلطوي لا يمكننا أن نخطئ الجهة المعنية بمبادرته التشريعية ولا يمكننا أيضا أن نخطئ المقصود الأصلي بـ”رسالة الطمأنة” التي تصرّ رئاسة الجمهورية على أن تبعث بها إليه رغم كل الاعتراضات السياسية والمدنية. وقد يكون من العبث أن ننتظر من وريث المدرسة الدستورية-التجمعية وحارس مصالح نواتها الصلبة أن يُقدّم رسائل طمأنة لعامة المواطنين (حتى أولئك الذين انتخبوه وحزبه)، كما قد يكون من العبث أيضا أن نطالب بمن أرجعته المنظومة الفاسدة إلى مركز السلطة أن يُقدم مبادرات تشريعية تُهدد مصالح تلك المنظومة ماديا ورمزيا أو تتحرك في أفق إصلاحي حقيقي يعيد تقسيم الثروة والسلطة على أسس أكثر عدلا (أمّا الأفق الثوري فلا يمكننا أن نتحدث عنه أصلا لأنه عدوّ “صاحب الكاريزما” وسليل “المخزن” الذي لم يخف يوما عدم مديونيته للثورة وشهدائها).
لا شك في أنّ مبادرة الباجي قائد السبسي هي رسالة طمأنة للعديد من الأطراف المرتبطة وظيفيا بل “وجوديا” بنظام المخلوع. فهي رسالة لطمأنة رجال الأعمال وكبار الموظفين والسياسيين التونسيين المتورطين مع النظام السابق بأنّ “النظام الحالي” هو مجرد وريث للنظام النوفمبري من جهة السياسات والخيارات الكبرى، وبالتالي هو وريث شرعي للـ”كفاءات” المالية والإدارية التي أشرفت على “المعجزة التونسية” زمن المخلوع. وهي أيضا رسالة طمأنة للشركاء الأجانب الذين تضرروا من “الثورة” وخافوا من إمكانية تغيير القوانين المنظمة لأنشطتهم الاقتصادية “المشبوهة” في تونس.
لكنّ الأخطر في مبادرة قائد السبسي (في صورة حصولها على مواقفة النواب) هي الرسالة التي يبعث بها للمجتمعين السياسي التونسي والدولي بأن “قصر قرطاج” قد أصبح مرة أخرى صاحبَ القرار السياسي النهائي، وبأنه المتحكم الأوحد بقوانين اللعبة رغم أنف الدستور ورغم أنف المعارضة (بل حتى بعض الشركاء في حكومة الوحدة الوطنية).
ثم ماذا…؟
لا شك في أنّ قانون السبسي للمصالحة المالية والاقتصادية هو ابن طبيعي لجملة من المسارات والخيارات التي تتحمل النخب المعادية للمنظومة القديمة جزءا كبيرا من مسؤوليتها. ولا شك أيضا في أن جزءا كبيرا من قوة النظام تنبع من ضعف خصومه وتشرذمهم وطغيان الزعاماتية والحزبية والنزعات الأيديولوجية عليهم. فنحن لا نستطيع أن نفصل الوضع الحالي عن الفشل في تمرير قانون العزل السياسي بسبب الاستراتيجيات المتنازعة لوراثة المنظومة السابقة، كما لا يمكننا فصله عن الصراعات الأيديولوجية التي عصفت بالمرحلة التأسيسية وجعلت من الباجي قائد السبسي “حكما” بين الإسلاميين والعلمانيين ثم “شريكا” في العائلة الديمقراطية ثم “أخا أكبر” لمعارضي الترويكا ثم “زعيما ومنقذا” لكل خرافات النمط ورموزه بحكم ارتباطاته المعلومة بالمنظومة السابقة وبنواتها الجهوية-الأمنية-المالية.
لقد قدّم قائد السبسي مبادرته التشريعية رغم كل الاعتراضات عليها لأنه في النهاية “رجل دولة” بالمعنى الاستبدادي للكلمة، رجل دولة لا ينصت إلا لمن أوصله إلى قصر قرطاج ويستطيع إخراجه منه إن لم يف بوعوده ويرد الدَّين الذي عليه. وهو ما يعني أنّ قائد السبسي غير معني بتفكيك منظومة الفساد ولا بمحاربتها (لأنّ ذلك من باب التدمير الذاتي أو الانتحار السياسي) وسيحاول استثمار موارد الدولة كلها من أجل منع ذلك والتشكيك في دوافعه أو مآلاته. وما سعي “المبادرة التشريعية” إلى الانقلاب على مسار العدالة الانتقالية والهيمنة على مختلف السلطات وتدجينها إلا مظهر من مظاهر “سياسة الدولة” التي تتجاوز شخص الباجي وشقوق حزبه كلها.
إنها سياسة لن تتورع -في صورة نجاح المبادرة التشريعية الحالية- عن الانقلاب على ما سيبقى من مشمولات هيئة الحقيقة والكرامة ومن استقلالية السلطتين التشريعية والقضائية، دون أن ننسى السلطة الإعلامية التي لا يخفى خضوع أغلب “خطوط التحرير” فيها لمراكز النفوذ المالي والسياسي. ولكنّ ذلك لن يحصل إلاّ إذا ما واصلت المعارضة (السياسية والمدنية والنقابية) خدماتها المجانية للنظام، أي إذا ما واصلت تصريف علاقاتها البينية وعلاقاتها بالسلطة الحاكمة (وبالمعارضة الشعبية العفوية وغير المسيسة) بالطريقة البائسة و”اللاوظيفية” التي تهيمن عليها الآن.