المعارض التائب والسياسي المتلون
لقبوه “اسد المناجم”، والحقيقة أن “المناضل البروليتاري” لم يقصر، لم يدخر جهدا لتعطيل إنتاج الفسفاط، كلما أبرم اتفاق مع الجهات المعنية، نقضه بعد أيام، وبطبيعة الحال، لن يعجز “المناضل الشرس” عن اختلاق الذرائع. تعطل إنتاج الفسفاط لسنوات، مما ألجأ الدولة إلى الإقتراض من الأسواق العالمية، ومن البنك الدولي، الذي يعتبره “المناضل العمالي” مؤسسة للنهب الدولي، تعمل لغير مصالح الشعوب الفقيرة. (والأمر كذلك) ولو أن قطاع الفسفاط اشتغل كما كان قبل الثورة، واشتغل التونسيون، كما كانوا قبل الثورة، لما وصلنا إلى هذه الحالة من البؤس: مديونية عالية، تضخم، غلاء معيشة، بطالة، هذه الحالة أنتجت بدورها، مزيدا من الإحتجاجات، ودفعت بالجميع إلى نفق مظلم، وما احتجاج أهالينا في تطاوين، وفي مناطق أخرى إلا نتيجة حتمية للأوضاع سالفة الذكر، والتي يعتبر “المناضل الفسفاطي” أحد مهندسيها، فبأي منطق، ينكر على أهالينا في الجنوب احتجاجاتهم المطالبة بحقهم في تنمية أهملها نظام الفساد والإستبداد، وعجزت حكومات ما بعد الثورة، على تقويم الخلل.
فهل الإحتجاجات تحت إمرة “الزعيم العمالي” مقبولة، وغيرها مرفوض؟ لقد أحل نفسه منزلة أعلى من الدستور، الذي كفل شرعية الإحتجاج مادام سلميا. إنها (طبائع الإستبداد). خدعوه بقولهم “أسدالمناجم” والإنتهازيون يغرهم الثناء. فأصبح يحرم على غيره، ما كان يبيحه لنفسه. بل اكثر من ذلك، أصبح يرفع صفة السلمية عن احتجاجات أهالي تطاوين. الإحتجاجات السلمية أضحت اليوم (كلاما فارغا). وحدها تلك التي تزعمها كانت “في الصميم”؟، وكانت “ذات جدوى”.
قطع الطرقات، وإغلاق المصانع، احتجاج غير سلمي (وهذا أمر لا يجدال فيه أحد). فماذا يسمي “المناضل الفسفاطي” قطع الطريق على إنتاج الفسفاط، وحرمان التوانسه من عوائده؟ إن الشعور بالظلم هو نفسه، في قفصة او في تطاوين، وفي كل الجهات التي حرمتها دولة الفساد والإستبداد حقها في التنمية، ولن نحمل مسؤولية غياب التنمية للحكومة الحالية، كما كان يفعل “أسد المناجم” مع الحكومات السابقة. هذه الأوضاع سببتها الدكتاتورية التي حكمت البلاد، معتمدة منوال تنمية أثبت فشله، وثار عليه الشعب التونسي لانه عمق الفوارق الجهوية، وعمق التبعية للدوائر الإستعمارية (وهذا عين ما كان يردده نصير الكادحين).
المعارض التائب، لا ينكر الإحتجاجات السلمية فحسب بل أصبح يجرمها، ويحرض عليها، لأنها قد تخفي، ما هو أخطر، وقد تتطور على حد زعمه (لكنه لا يوضح إلى أي حد)، لذا فالمطلوب قطع الطريق عليها قبل أن تحقق أهدافها. تحول “نصير الطبقات الكادحة” من قطع الطريق على الحكومات إلى قطع الطريق على المحتجين السلميين (والمهمة في كل الأحوال واحدة). دون أن ينسى التذكير بسابق نصائحه لرئيس الحكومة. معارض الأمس، ناصح اليوم، يذم السياسيين (وهو منهم). لسوء إدارة الحوار مع المحتجين (وهو محق). فهل يريد القول إنه الأقدر على محاورة المحتجين، وبالتالي يعرض خدماته على السلطة القائمة ؟
سبحان مغير الأحوال، بالامس اشتغل بالتحريض على حكومة الترويكا، واليوم يحرض الحكومة على الشعب ويقول بانه نبه رئيس الحكومة إلى خطورة الإحتجاجات. ألم يكن حريا به، أن ينبه إلى خطورة: الفقر والتهميش والحرمان، وغياب العدل، وقلة الإهتمام بمصالح الناس؟ وهو الذي نصب نفسه من قبل ناطقا باسم الطبقات المحرومة.
ليست هذه السابقة الاولى في تلونه، لقد سبق أن أنكر على المربين نضالاتهم السلمية. ما سر هذا التلون بين الأمس واليوم؟
يبدو أن المعارض التائب قد عافت نفسه “النضال” وأصبحت تهفو إلى موائد الليبراليين. هل هو بريق السلطة؟
غير بعيد ممن تقمص دور المنقذ والمخلص في الحوض المنجمي، يظهر الناطق الرسمي باسم الحكومة، ليعلن بكل حزم عزم الدولة على فرض القانون، وهو الذي، كان ذات ليلة، يحرض المحتجين على انتهاك القانون، ثم بكي في “موقف درامي مؤثر”، لما اجتهدت الدولة في تطبيق القانون، فأحدثت ضررا لبعض المواطنين، وهو امر غير مقبول، وحتى الحكومة عبرت في حينه عن امتعاضها مما جرى.