عبد الرزاق الحاج مسعود
مقدّمة
لا خلاف اليوم في تونس، بعد ست سنوات من الثورة، على حالة التخبّط التي انتهت إليها النخب السياسية حكما ومعارضة. قد يكون مصطلح “الانسداد السياسي” لتوصيف الحالة التونسية قاسيا بالنظر إلى تواصل اشتغال دواليب الدولة في الحد الأدنى التسييري والإداري، ولكن لا أحد ينكر حالة الحيرة العامة ومراوحة الحكومات المتعاقبة العبثية أمام السؤال نفسه: من أين نبدأ مسار الإصلاحات الضرورية لنمنع انهيار التوازنات الاقتصادية الكبرى وانزلاق الوضع الاجتماعي نحو انفلات شامل تتواتر نُذرُه، ولنحافظ على مكاسب التأسيس الديمقراطي الهشّة؟
تسود حالة من “الميوعة” السياسية العامة والبلد على بعد أشهر قليلة من انتخابات محلية وجهوية تمثّل اختبارا حقيقيا ومصيريا لديمقراطية ما زالت تشتغل بـ “طاقة الدفع الثوري الذاتي” التي ولّدها الحدث الثوري، ولكنها طاقة توشك أن تنضب إن لم تكن قد نضبت بعد، ولم تعد تكفي لمواصلة السير وسط تضاريس محلية يغلب عليها الانفجار الاجتماعي العنيف، وخارطة حزبية رخوة ومتهالكة أو جديدة غير مكتملة الملامح، كل هذا وسط محيط إقليمي ودولي شديد الاضطراب.
كيف يمكن أن “نروي” ما يحدث في تونس الآن؟
تتنازع الشارع السياسي التونسي اليوم نزعتان:
• نزعة تميل إلى التعامل العقلاني مع صعوبات التأسيس الديمقراطي بعد ثورة مفاجئة مثّلت أول محاولة جريئة لكسر تاريخ راسخ من التخلّف الحضاري الشامل (الانحطاط الفكري والاستعمار الأجنبي والاستبداد والتبعية…) ران على عالم العرب منذ قرون. هذه المقاربة تنظر إلى المشهد التونسي ضمن سياق تاريخي عالمي يتميّز بعمق التحوّلات السياسية الاستراتيجية الدولية وعنفها وسرعتها وتعقّدها وغموضها، وتحرص على صيانة وتجديد الروابط الوطنية الهشة بين الجهات والطبقات والقبائل الإيديولوجية المتناحرة والتفكيك الهادئ لهذه الألغام القابلة للانفجار في كل لحظة. هذه النزعة العقلانية الواقعية تجلّت فاعليّتها العمليّة في محطّات التأسيس الديمقراطي الكبرى:
– الانتخابات التأسيسية وتشكيل “ترويكا” حاكمة لأول مرة بين فرقاء إيديولوجيين.
– “الحوار الوطني” الذي مكّن من استكمال صياغة دستور توافقي نجح في حبك توليفة ذكية ودقيقة من التسويات والتعاقدات النظرية والتاريخية بين مدارس متناقضة تقليديا في الفكر والسياسة. وتمخّض عن تشكيل حكومة تقنية نجحت في تأمين أول انتخابات برلمانية ورئاسية في تاريخ البلاد الحديث.
– تشكيل حكومة ائتلافية برئاسة “مستقلّ” (السيد حبيب الصيد) ضمت أربعة أحزاب من بينها حزبا النهضة والنداء بعد أن مثّلا خلال الحملة الانتخابية قطبين نقيضين سياسيا وثقافيا وكادا يجرّان البلاد إلى معركة هوية زائفة لا علاقة لها بحاجيات الناس الواقعية.
– وأخيرا وثيقة قرطاج كأعلى مرحلة من التوافق السياسي والمجتمعي والتي ضمّت تسعة أحزاب سياسية وثلاث منظمات وطنية رئيسية وتشكلت بمقتضاها حكومة “وحدة وطنية” بمشاركة مستقلين وخمسة أحزاب.
• نزعة راديكالية، تصف نفسها بالثورية ويصمها خصومها بالعدمية و”الثورجيّة”، لا تتردّد في رفض المسار الانتقالي برمّته والدعوة إلى مراجعته والتنصّل من نتائجه بدعوى أنه مكّن منظومة الحكم القديمة من العودة التدريجية للحكم بسبب تراخي حكومات ما بعد الثورة وتردّدها في الحسم الثوري مع المسؤولين عن مظالم الحقبة الدكتاتورية. هذه النزعة نجد صداها في الشعارات المرفوعة خلال الاحتجاجات الاجتماعية الأخيرة المطالبة بالتنمية وبثمار الثورة والتي تتوسّع رقعتها أحيانا لتشمل أغلب جهات البلاد.
الغريب أن هذه النزعة الرافضة للمسار الانتقالي التوافقي والمشككة في جدواه تجمع موضوعيا فئات شعبية وجهات مفقّرة فعلا بسبب خيارات لاوطنية سابقة وسياسات نهب ممنهجة، إلى جانب ثوريين حالمين بالمرور السريع إلى دولة الثورة التي تنجز بفضل طليعتها الثورية “الملهمة” وبرنامجها الثوري العدالة الاجتماعية واستقلال القرار الوطني والسيادة على الثروات الوطنية، إلى جانب “رافضين” ماضويين يريدون استدعاء نموذج دولة ذات برنامج نبوي مقدّس، هؤلاء جميعا يلتقون موضوعيا مع من يروّج لفكرة عدم أهليّة العرب للديمقراطية والحرية مثلما كان يردّد حرّاس إيديولوجيا الاستبداد، ومثلما نظّر لذلك طويلا رموز الاستشراق الاستعماري.
وإذا أضفنا إلى هذا “الكوكتال المتفجّر” المعطى الخارجي الإقليمي والدولي المالك لوسائل التأثير والتوجيه المالي والإعلامي والسياسي، يصبح الحديث عن مآلات التجاذب بين النزعتين الغالبتين على الشارع السياسي التونسي أشدّ تعقيدا.
مفاتيح لفهم اللحظة السياسية المتحرّكة في تونس
يدرك التيار الواقعي الذي لا يزال يمسك وإن بصعوبة بزمام المبادرة السياسية في تونس أن المسار السياسي التوافقي لم يستكمل شروط استقراره وأنه يترنّح أمام العواصف التالية:
1. العجز عن تحقيق أي إنجاز تنموي يجد المواطن أثره المحسوس في معاشه وفي قدرته الشرائية ويعاين حركيّته سكانُ المناطق الداخلية مشاريعَا وتشغيلا وحركية اقتصادية وانفتاحا للآفاق أمام الشباب (علما وأن عبارة المناطق الداخلية لم تعد ذات معنى لأن المدن الكبرى نفسها بأحيائها الشعبية المكتظّة وجحافل بطّاليها وبنيتها الأساسية المخرّبة لا تقل احتياجا عن بقية جهات البلاد. البلاد كلها “داخل”).
هذا العجز الحكومي يتبدّى في المراوحة العبثية منذ الحكومة الأولى حتى الحكومة الحالية وهي الثامنة خلال ست سنوات أمام سؤال يكاد يصبح “وجوديّا”: بأي إصلاح نبدأ؟ هل نبدأ بملف الصناديق الاجتماعية المفلسة؟ أم بملفّ مقاومة الفساد الذي أصبح “شعارا” يرفعه الجميع بمناسبة أو بدونها حتى كاد يعوّم ويفقد مضمونه؟ أم بملف صندوق الدعم الذي يمثل نزيفا دائما لميزانية الدولة ومسكّنا اجتماعيا ضروريا في نفس الوقت؟ أم بملفّ المصالحة الاقتصادية الذي يكاد يصبح “عقدة” مستعصية يتوقف على حلّها ملف الاستثمار ووضع رجال الأعمال ؟ فضلا عن ملفّ “العدالة الانتقالية” الملغوم، وملفّ الإصلاح التربوي الذي أربك علاقة اتحاد الشغل بالحكومة وكاد يفشل السنة الدراسية برمّتها قبل أن يتمّ إلحاقه بوثيقة قرطاج لمزيد من “النقاش” في اتفاق شبه سري بين الحكومة والاتحاد.
لكن مقابل هذا العجز الحكومي عن استنباط حلول سريعة لهشاشة اجتماعية تنذر بانفجار وشيك في وجه الجميع، مقابل هذا العجز يمثّل انضمام اتحاد الشغل إلى اتفاق قرطاج ومساندته للحكومة الحالية ضمانة كبرى لاستمرار قدرة البلاد على ضبط المسار العامّ دون هزّات كبرى إلى حين التوصّل إلى زحزحة ما تعيد الأمل للفئات والجهات المنهكة.
2. أزمة داخلية طاحنة ومستعصية تعصف بحزب نداء تونس الذي يقود المرحلة الحالية ويرأس الدولة والبرلمان والحكومة. فقد انشق عن الحزب منذ صعوده إلى الحكم عدد كبير من رموزه القيادية ليؤسسوا أحزابا منافسة من داخل نفس المرجعية التي صنعت انتصارات الحزب الانتخابية الكبيرة، وخسر الحزب أغلبيته البرلمانية لصالح “حليفه اللدود” حركة النهضة، وها هو يستعد لخوض انتخابات تأكيد الوجود دون مؤسسات قيادية منتخبة ومستقرة ودون مؤتمر تأسيسي وفي ظل حصيلة سياسية غير مطمئنة. لذلك يعمل بعض خبرائه المغامرين على إحياء البرنامج الانتخابي “الراديكالي” الذي أثبت نجاحه في التحشيد والتعبئة ضدّ خصم ثقافي يبشر بنمط مجتمعي رجعي ولو كان هذا الخصم قد غادر أرضه القديمة، ولو أدى الأمر أيضا إلى تغذية مناخ الانقسام المهدد لكل مكاسب تجربة التوافق الحذر. وإذا علمنا صعوبة التنصّل من تجربة الائتلاف مع النهضة في الخطاب السياسي العلني لنداء تونس وصعوبة تبرير هذا الخيار التكتيكي المثير والدفاع عنه فضلا عن مواصلته وترسيخه، فإننا نفهم حالة العودة التدريجية لخطاب الشحن الايديولوجي الصامت (الذي كشفت حدّتَه بعض التسريبات الإعلامية الأخيرة) الهادف إلى فك الارتباط لا فقط مع حليف سياسي وقتي اقتضته مصلحة الانتقال السياسي الهشّ، بل مع تجربة تأسيس جديد للسياسة على قاعدة المصلحة الوطنية والممكن السياسي العملي لا على قاعدة الموقف النظري والهووي الهلامي. وقد مثّلت معركة ما سمي بـ “إعادة كتابة تاريخ تونس” والموقف من الصراع البورقيبي اليوسفي على هامش جلسات هيئة الحقيقة والكرامة، مثلت “فرصة” لتعميق واختلاق وتغذية الانقسامات التاريخية الهووية الحادة من طرف “هوّاة” سياسيين لا يقدّرون خطورة مآلات هذه المعارك الدونكيشوطية الحمقاء ويغفلون عن أولويات سياسية يتوقّف عليها مصير انتقال سياسي وطني تتهدده مخاطر لا تحتاج جهدا لمعاينة نتائجها الكارثية على تجارب مشابهة وقريبة.
3. وجود حركة النهضة وما اصطلح عليه بـ “الإسلام السياسي” عموما في قلب المرحلة الانتقالية مثل “نموذجا” عمليا لممكنات الحلّ “التجريبي” للمأزق التاريخي الذي انتهت إليه مجتمعاتنا العربية بعد فشل الدولة الوطنية في مهمتي التنمية والتحديث. فها نحن اليوم نرى كيف تنقسم “تأويليات الإسلام” بين تيارين: تيار سلفي ارتكاسي رافض للحياة وللمستقبل ويوظّف عالميا بسهولة كأداة جريمة لتفجير الهويات الوطنية المستقرة تاريخيا لصالح “وهم” عصابي (اكتئاب بسبب الشعور بالغربة عن الحياة والخوف منها) لاتاريخي تحت مسمى “الدولة الإسلامية” أو “دولة الخلافة”، وتيار واقعي مرن يبحث عن مصالحة عملية بين الحقيقة الأخلاقية للدين كمصدر استلهام روحي ونفسي تربوي فردي في أساسه (وعندما نقول بفردية التديّن نقصد ذاتيته وإنسانيته باعتبار الإنسان محلّ الوجود)، والحقيقة التاريخية المعقّدة والسائلة التي تفيض عن كل القبْليّات الإيديولوجية ولو كانت قبْليّات ناطقة بلغة “شرعية” مغتربة عن الدين الإنساني المفتوح قبل أن تكون مغتربة عن قوانين الواقع وحقيقة الإنسان المركّبة.
في رأينا يمثل السلوك السياسي لحركة النهضة بداية حل تجريبي عملي لمأزق ثقافي تاريخي عربي تحوّل إلى انسداد كلّي قبل الثورات الأخيرة (ما سمّي بقضية الأصالة والمعاصرة)، وبداية حلّ لمأزق الاشتراك في نفس المرجعية مع التيار الإسلاموي العدمي الذي تحوّل إلى ذريعة تبرّر بها قوى الهيمنة الاستعمارية العالمية احتلالها لأجزاء كبيرة من أرض العرب، وتبرّر بها قوى الاستبداد ولوبيّات الجريمة المعولمة دعواتها السافرة إلى عودة الدكتاتورية بحجة أولوية محاربة “الخطر الإرهابي” الداهم قبل التفكير في ترف الديمقراطية.
حركة النهضة تنوء تحت ثقل هذا الدور التاريخي المعقّد بأبعاده المختلفة
– البعد التنظيري التي لا تمتلك زمنَ ولا فرص بلورته وترسيخه لدى قواعدها وفي محيطها، وهو ما بدا جليا خلال مؤتمرها الأخير الذي حكمته هواجس اللحظة السياسية الضاغطة والملحة على حساب وفي مواجهة نزعة تنظيرية حجاجية عنيدة ازدهرت داخل صفوفها تحت شعار “النقد الذاتي والتقييم”، نزعة تكاد تصبح خصّيصة مميّزة لكوادرها الوسطى ذات الأصول الطلابية الثمانينية (أغلبهم من طلبة الجامعة التونسية سنوات الثمانين من القرن الماضي).
هذا البعد التنظيري يأخذ داخل النهضة وجها آخر هو مستوى التأصيل الفقهي البسيط الذي لا يزال ضاغطا على حركة النهضة التي تحرص على عدم القطع مع مرجعيتها الإسلامية، فقاعدتها الصلبة يوجهها في العموم عقل فقهي تقليدي لا يمكن أن يقتنع بسهولة أن النهضة استعاضت عن التنصيص على مرجعيتها الدينية في لوائحها التأسيسية خلال المؤتمر الأخير لصالح تضمينها نهائيا في دستور البلاد. وهي خطوة عملاقة ستسهم تدريجيا في تخفّف التيار “الإسلامي” (بحكم الاسم والعادة في انتظار أن يفعل الزمن فعله ويرسخ الهوية الجديدة) من التباسات و”شبهات” الهوية لتيسير عملية الاندماج في مؤسسات الدولة المدنية الديمقراطية الجامعة التي يكلّفها الدستور بحفظ الهوية الثقافية للبلاد.
– البعد السياسي العملي الذي يفرض على الحركة خوض معركة التأسيس الوطني الجديد في مناخ من التجاذب الثقافي والإيديولوجي والسياسي، ومواجهة تحديات الحكم في زمن المطلبية المنفلتة والمبرّرة أيضا بحكم شرعية الحلم بعد ثورة، وفي ظلّ كارثيّة تركة عشريات متتالية من الاستبداد والفساد، وفي سياق تحوّلات إقليمية ودولية لا أحد يملك القدرة على استقراء وجهاتها ومآلاتها. وكلّ هذا يقتضي استغراقا كبيرا في متابعة الشأن السياسي الوطني والدولي ويقتضي مرونة كبرى لاستباق تحوّلات واقع تربك برامج أصحاب مراكز التفكير والاستشراف فما بالك بالمطمئنين إلى أوهامهم الإيديولوجية الساذجة.
لذلك نميل إلى الاعتقاد في أهمية دور حركة النهضة التونسية في صناعة نموذج ممكن لمأزق الصدام العبثي الذي عطّل مجتمعاتنا بين حداثة شكلية ومسقطة ومستحيلة وعودة للماضي متوهّمة ومرضية ومستحيلة أيضا. خطورة هذا الدور وضرورته هو ما يميّز التجربة التونسية وربما مما يضاعف من دواعي استهدافها، و للمفارقة من فرص نجاحها أيضا.
خاتمـــة
عدم استقرار الخارطة الحزبية والبلاد على عتبة استحقاق انتخابي كبير، وانتشار خطاب ترذيل السياسيين والتيئيس من السياسة ومن المستقبل عموما، ومراهنة الأحزاب الصغيرة اليائسة أو الجديدة الطامحة على طمس كل المنجز السياسي الانتقالي، كل هذه عوامل قد تخنق الديمقراطية الوليدة وتحرمها من وسيلتها وغايتها الأولى والأساسية: ألا وهي المواطن المسيّس والناخب. ولو صحّ ما يروّجه بعض الإعلام حاليا من اعتزام 80% من الناخبين الامتناع عن التصويت في الانتخابات القادمة ستجد الديمقراطية نفسها من دون أدوات. لن نتحدث حينها عن ضرورة تجديد النخبة السياسية بل عن تصوّر جديد للديمقراطية وللسياسة عموما، أو ربما عن “تاريخ جديد” لا نرى ملامحه الآن، بل نتجنّب التفكير فيه لأنه سيكون على الأرجح سقوطا نهائيا من التاريخ.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.