صعاليك السياسة أقل مروءة من الشنفرى، وأقل وعيا بقيمة الحرية
شكل الشعراء الصعاليك علامة بارزة في الشعر الجاهلي، وفي البيئة العربية، بفضل ما فرضوه من قيم نبيلة وجديدة، حيث تمردوا على القبيلة، وخرجوا على أقوامهم، منطلقين إلى حياة البرية، ليعيشوا مع أصدقاء جدد، يشعرون بالألفة معهم أكثر مما يشعرون بها مع أقوامهم، وكان الشنفرى خير من عبر على هذه المعاني في لاميته المعروفة “لامية العرب”.
وقد كان تمردهم نقمة على الأغنياء، الذين صنعوا حواجز بينهم وبين الجياع والفقراء،، تمردوا على التقاليد الظالمة التي تتسامح مع الغني عندما يسرق، وتعاقب الفقير عندما يسرق.
وقد جاء في الحديث الشريف: “إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الفقير أقاموا عليه الحد”. تمردهم كان انتصارا للحرية، التي حرمها سادة القبائل على الفقراء. ألم يقل عمر بن الخطاب لاحقا: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟”.
تقول الأسطورة، إن الشنفرى نشأ عبدا مملوكا، ولما بلغ عنفوان الشباب أحب فتاة حرة (ابنة سيده)، ولما صارحها بحبه صفعته، لأن التقاليد القبلية لم تكن تسمح بذلك، فأدرك الشنفرى أن الحرية ليس لها ثمن، ولا يقابلها عوض، فأقسم أن يقتل مئة من قومه، انتقاما لحريته المسلوبة، وانتقاما من العادات، التي تفرق بين إنسان وآخر. وقرر أن يهجر قومه طلبا للحرية بين الوحوش في البرية، ومع الصعاليك أمثاله:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم *** فإنني إلى قوم سواكم لأميل
فما بال صعاليك السياسة عندنا يتآمرون على الحرية؟ إما بتحويلها إلى فوضى مدمرة (عندما كانوا في المعارضة) وإما بالتكميم التدريجي للأفواه (عندما وصلوا إلى السلطة) صعاليك الجاهلية، كانوا يقطعون الطرق على الأغنياء، ليطعموا الفقراء، فما بال صعاليك السياسة عندنا يقطعون الطرق على الفقراء، بقطع التنمية عنهم؟ بل ينحازون في تحد سافر للثورة إلى اللصوص والقتلة وناهبي المال العام.
صعاليك السياسة عندنا يتحالفون مع أرباب المال، من البرجوازيين والليبراليين والإقطاعيين، وهم الذين أصموا آذننا بأن فلسفتهم تنحاز إلى الكادحين (تحالف اليسار مع رجال أعمال من المنظومة السابقة لإسقاط حكومة الترويكا).
أحد صعاليك السياسة، يقول مبررا عودته إلى واجهة الأحداث الإعلامية والسياسة (بعد ان كان أقسم على هجرها) پأن له ثأرا شخصيا. يريد أن يثار من الثورة لمخلوعه، ليس حبا فيه ولكن حبا بما كان يغدق عليه من امتيازات. صعاليك السياسة، هم قوم موقعهم من اللصوص موقع أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم، ينطقون برغباتهم، ويعقدون الندوات لإقناع المجتمع بجدوى التصالح مع اللصوص من ناهبي المال العام ومن المتفلتين من دفع الضرائب، حتى أصبحوا ينعتون بأنهم: “كلاب فلان، وكلاب علان”، ويستأجرون للقيام بالمهمات القذرة بحق أفراد أو منظمات أو أحزاب (وما تسريب قناة العائلة ببعيد).
يستغرب أحد صعاليك السياسة، عودة المنظومة القديمة، وعودة الفساد، وقد كان هو وأمثاله عكازها وواجهتها، وأكلوا معها “الروز بالفاكية” فهل يحق له اليوم ان يستغرب عودة المنظومة القديمة؟ بل قالوا صراحة إنهم “سيقطعون الطريق على الدكتور المنصف المرزوقي”. بعد أن قطعوا الطريق على التنمية.
صعاليك السياسة عندنا، ثوار إلى النخاع في تونس، ولكنهم يؤيدون قمع الثورات في بلدان الربيع العربي، انحيازا للأيديولوجيا وليس للإنسان. ديمقراطيون إلى أبعد الحدود في تونس، ولكنهم “شبيحة” في دمشق، “بلطجية” في القاهرة… يؤمنون في تونس بالدولة المدنية، ولكنهم يساندون حكم العسكر في مصر، يؤمنون في تونس بالتداول على السلطة (حتى وإن لم يكن سلميا) ولكنهم يساندون حكم التوريث في سوريا. فهل بعد هذه الصعلكة صعلكة؟ كثيرا ما يعبرون عن تأييدهم المطلق لكل الإحتجاجات في تونس، ولكنهم مع قمعها في سوريا، عندها فقط يتذكرون “المؤامرات الإمبريالية على الأمة” أليسوا حقيقة صعاليك؟ ويتداعون “إلى رص الصفوف”، استعدادا لمعارك التحرير، التي لم نر منها غير البراميل المتفجرة والغازات الكيمياوية تحصد عشرات الأرواح يوميا.
“صعاليكنا” يناوئون في تونس الإسلام السياسي، الذي لم يعد بعد الثورة كذلك (لأنه قام بمراجعاته، وأعلن الفصل بين السياسي والدعوي، وأعلن ذلك للعموم). وقي الوقت نفسه، في طريق حجهم إلى زعيم الممانعة، يخرجون من بيروت إلى دمشق، في حماية الإسلام السياسي والطائفي، ولا ينسون واجب الثناء على دولة “الملالي”، التي ابدعت مصطلح الإسلام السياسي لكونها أنقذت نظام الممانعة من ثورة شعبيه ستلحقه، عاجلا أو آجلا بمخاليع الثورات العربية.
نم هانئا، أيها الشنفرى، وكفكف دموعك، لقد داويت جراح قلبك بعشق أكبر (عشق الحرية) ودفعت من أجلها حياتك، أما صعاليك السياسة عندنا، اشتروا بالحرية، امتيازات وظيفية، وحسابات بنكية، ولكنها منزوعة الكرامة، تماما مثلما كان العبيد على أيامك، آثروا كسرة الخبز والمأوى على الحرية.
جاء في وصية الإمام غلي بن ابي طالب لولده الحسن : “لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا”.