زردة سِيدِي حامد
محمد كشكار
مواطن العالَم
زيارةٌ خاطفةٌ قمتُ بها أخيرًا إلى “زردةِ سِيدِي حامد” أكلتُ وشبعتُ في خيالي! مواطن العالَم د. محمد كشكار، أصيل جمنة ولادةً وتربيةً
نحن في بداية الستينيات، عمري ثمانٍ أو عشرُ سنواتْ، بين المغرب والعِشاء، انتقل أسعدُ الأخبارِ للأطفالِ في حمادة الحوامد، زردةٌ في سيدي حامد، كسكسي ولْحَمْ. أعلمتُ أمي وأخذتُ معي “غُنْجَايْتِي” وقصدتُ ربي رِفقة محمد الصالح وبلڤاسم والساسي. انطلقنا قبل مغيبِ الشمس حافين الأقدام رغم البرد. بعد نصف ساعة من الضحك وصلنا. بأجمل الأصوات في أذني افتتح علي بن عبد الله الحضرة وبِنوره غمر حسن بالخليل الأبصارَ وبِمدحِه للرسول أطربني وهز شيئًا في داخلي رغم صغر سنّي ودونًا عن أندادي. كنتُ أراه أبهى خلق الله كلهِمِ. في عرش الحوامد نشأتُ وفيه ترعرعتُ ولم أعرف أنني شِتوي إلا عندما كبُرتُ ووعيتُ.
أحكي لنفسي بِنفسي كل ليلة حكايا لا تُنصتُ لها إلا نفسي. أهرب من صحراء المدينة إلى دفئ أهلي أصب فيهم ما أمكن من وحدتي وحزني. أجلس على العِرڤْ وأتمدد على ظهري فتهرع ذكريات صِبا جمنة إلى حضني ويرتخي على بياض عيني جفني ولا أملك إلا أن أحكي، للهواء أحكي، لغير السامعين أحكي.. يَعبُرُ الأترابُ من أمامي لا يلوون على شيء، أسمع الساسي يحدثني، تعالى تعشى. التحلُّقُ حول الڤصعة ألَذُّ ممّا في الڤصعة. ينتصبُ باباي علي بالعريبي بالڤفة يفرّڤ علينا في الظلامِ ما كُتِبَ لنا ممّا عَلِقَ بالعِظامِ.
لا بدّ أن تعرف جمنة أنني ما هربتُ، وعنها ما ابتعدتُ، ومنها إلى اليوم ما تحررتُ.. أمي يامنة، عمتي رڤية، للت الزينة، للت امنِي، عمي نصر، الشرشارة، أحمد بالريش، النمنام، الساسي بِنحمد، العين الڤديمة، عرڤ كُشّادة، العيساوية، بْشيّرْ، ڤيّار، الهيسة، الخضّوري، عبد الله بوسِتة والصادڤ عميرة وجمل عاشورة، لِفطايْري ومختار الحافي، قهوة دروك وعلي بالجيلاني وعمر الڤدع وحبك مُرّ مثل الكينة، طابع فيل وكلتوسة بن جبير، غارالسوف الطرّوفي، حارة فول، غُنجاية حَسِي.. الخُوطة والمَشّاية والدرڤيلة والكرّوسة والسريبت وكار التوريست وباك سعد وسرقة العنب مِالسواني والدغباجي وبن سديرة وڤافلة تسيرْ..
أحكي، أحكي، يدور الكلام، تدور رحى الأحلام.. تنفرين يا جمنة من حوض ذكريات صبايَ شبه عارية، جميلة يانعة، لا تكشفين سر بهائك إلا لأولادك.
غدرتَ بي يا زمن وعاقبتني بالنفي، عدلتَ وأستحق.. لي طلبٌ واحد: اعفُ عني بعد مماتي بعد ما حرمتني منها نصف قرنٍ في حياتي..
إمضائي
“وإذا كانت كلماتي لا تبلغ فهمك فدعها إلى فجر آخر” (جبران)
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط، الأحد 23 أفريل 2017.
للأمانة الأدبية، نص مستوحى من رواية “توجان” لِـآمنة الرميلي الوسلاتي، دار آفاق، الطبعة الأولى، تونس 2016 (رواية لا توجد من بين أحداثها أي زردة).