مقالات

الإستحالة الممتنعة أو الدولة والأخلاق

أبو يعرب المرزوقي
المقدمة
سأتوقف قليلا في مسالة الإبداعين للكلام في مسألة أسالت الكثير من الحبر: الدولة المستحيلة. وليس من عادتي ولا أنوي الرد على أحد حتى لو ذكرني.
كما أني لما تكلمت على الدولة المستحيلة لم يكن قصدي الرد على حلاق ولم أقصر كلامي عليه بل تكلمت كذلك على عبد الرازق في صلة بالدولة الإسلامية.
مشكلي مع مفهومين أعجب كثيرا أن فهمهما لدى من يدعي التفلسف في السياسيات (حلاق)
والتفلسف في الأخلاقيات (عبد الرحمن) الوصل والفصل بينهما.
لم أفهم وصلهما بين المفهومين في دولة الإسلام وفصلهما في الدولة الحديثة وبمعنى أوضح كيف يسبغان الخلقية على الأولى وينفيانها عن الثانية.
ولم يكن بد من الخوض فيما يمكن أن يطرأ على فهم المفهومين حتى يصبح ذلك ممكنا: تصور دولة ذات أخلاق ودولة عديمة الأخلاق أمر محير لكل عاقل.
لذلك فينبغي أن نطلب محل الأخلاق في الدولة عامة قبل التمييز بين الدولة الإسلامية والدولة الحديثة. فحضور الأخلاق في الدولة عامة ذو مستويين.
1. فهو يحضر أولا في بنيتها المجردة لتحقيق وظائفها قبل أن تملأ بمن تتعين فيه سلطتها ممن اختارهم الشعب أو فرضهم العرف ليكونوا الفاعلين باسمها.
2. وهو يحضر ثانيا فيمن تتعين فيهم سلطتها لتحقيق وظائفها وبه يقدر مدى ولائهم عملهم بشرائعها التي تحدد دور مؤسسات بنيتها المجردة غاية ووسائل.
مفهوم الأخلاق في بنيتها المجردة وولاء الحكم والمعارضة لما يضمنه الدستور
ولنذهب الآن إلى مفهوم الأخلاق بنوع حضورها الأول (ما يسعى إلى ضمانه دستور الدولة) وبنوع حضورها الثاني (مدى ولاء الحكم والمعارضة لما يضمنه).
فلنعتبر الدولة الحديثة دستورها غايته الوحيدة ترضية الحيوان في الناخب بوسائل منافية للأخلاق الحميدة وأن حكمها ومعارضتها مافيات موالية له.
هل هذا يعني أنها بلا أخلاق؟
أم هو حكم خلقي على المفهوم الذي تتبناه الدولة الحديثة؟
هل مفهوم الأخلاق حكر على الحميد منها؟
سوء فهم للمفهوم.
أليس وصل الدولة الإسلامية بالأخلاق وفصل الدولة الحديثة عن الأخلاق مجرد حكم مسبق يجعل صاحب الميل للأولى حكما في قيمة الثانية من منطلق عقدي.
هل تفضيل طه عبد الرحمن لعقيدته الإسلامية في الأخلاق كاف للزعم بأن الدولة الإسلامية مستحيلة الوجود الحديث لأن الدولة الحديثة بلا أخلاق؟
ذلك ما لا أفهمه. لكن ما لا أفهمه حقا هو أن الفلسفة لم تعد فنا ذا قواعد أولها التمحيص المفهومي بل صارت ساحة مباحة للعجلى من طالبي النجومية.
مفهوم الدولة
أعود الآن إلى مفهوم الدولة الذي يباهي أدعياء ما بعد الحداثة بأنه مفهوم حديث لا يعقل إلا من منطلق فكر الحداثة الغربية. إنه تياسر مفهومي مجاني.
الحداثة السياسية في الغرب إضافية إلى الوسيط والقديم.
1. بطبيعة شرعية الحكم في الدولة (شعبية أم إلهية).
2. لا تصح على الدولة القديمة في اليونان.
ولهذا العلة كان لفلسفة الدولة والحكم اليونانية دور كبير في بناء الدولة الحديثة. لكن تحرر الغرب المسيحي من عوائقها اقتضى ثورتين حررتاه منها.
الثورة الأولى يمكن اعتبارها روحية وهي التحرر من الوساطة بين المؤمن وربه: وهذا تأسيس للمسؤولية الشخصية التي هي جوهر الأخلاق سالبها وموجبها.
والثورة الثانية سياسية تحرر المواطن من دولة يدعي حكامها أنهم يستمدون شرعيتهم من حق إلهي تؤيده المؤسسة الكنسية التي تجاوزتها الثورة الروحية.
الدولة التي يتكلم عليها حلاق ويؤسسها على فهم عبد الرحمن الذي يقصرها على الموجب منه في منظوره والتي يريانها مستحيلة تخلت عن ثورتي الإسلام.
فالثورة الروحية (علاقة مباشرة بين المؤمن وربه دون كنسية) والثورة السياسية (علاقة مباشرة بين المواطن والشرعية) هما أساس علاقة الدين بالسياسة.
وهما مفهوم الدولة في الإسلام: الشورى 38 : (فأمرهم = راسبوبليكا) و (شورى بينهم = ديموقراطية) وإذن فنظام الدولة هو جمهورية ديموقراطية أو شورية.
وهذه النظرية القرآنية ليست ما نجده في دولة الفقهاء التي يمدحها حلاق وينسب إليها الأخلاق ويدعي أنها لم تعد ممكنة بدعوى نقد الدولة الحديثة.
ثم إن نقد الدولة الحديثة في واقعها لو فعلنا مثله في نقد الدولة الإسلامية القديمة لكانت هذه دون تلك خلقية.
كلامه لا يعني إلا بوكو حرام.
أما المتطفلين على الفلسفة فلا داعي للكلام معهم أو عليهم.
فيلسوفهم يخلط بين الأخلاق وأحكامه المسبقة دفاعا عن عقيدته.
الدولة شرط الأخلاق دائما.
ادعاء أن الدولة الحديثة غير خلقية ونصح المسلمين بتجنبها بدل تجويد ما في كيانها البنيوي وفي تعينها الفعلي من أخلاق لا يقول به إلا بوكو حرام.
ما بعد حداثة أخلاق عبد الرحمن وحلاق من الموضة. لكنها أبعد ما يكون عن طلب المعرفة الرصينة إذا حافظ الفكر على قواعد المنهج بأمانة طلب الحقيقة.
ليس في كلامي رد على أحد بل هو تصحيح لمفهوم الأخلاق (موضوعها هو الفضائل والرذائل) ومفهوم الدولة الذي لا يتغير (تربية للرعاية وحكم للحماية).
والدولة شرط واسع الأخلاق أو السياسة التي هي فعل تربية الإنسان (وهو البعد الخلقي) وحكمه (وهو البعد القانوني) بإطلاق مبدئيا وبنسبية فعليا.
من مفارقات ما بعد حداثة عبد الرحمن وحلاق أنها تنتهي في الغاية إلى عبارة خاوية أو تحصيل حاصل: الماضي لا يعود والحاضر غير الماضي.
لكن فيم؟
ما يقوله عبد الرحمن عن الأخلاق التي يقصرها على ما يعتقده فهما للإسلام موقف مذهبي وليس بحثا فلسفيا وما يقوله حلاق بناء عليه فوكلدية مبتورة.
نقد الاستشراق ليس لعبة. والذهاب إلى تسفيه كل المستشرقين سخافة. فوكو يتكلم على الابستيميا التي تبدع الرؤى والتأويلات ولا تنفي الحقائق.
قد يصح النقد الفوكلدي على الرؤى لكنه لا ينفي أن وراء الرؤى علوما هي التي بمقتضاها تعتبر الرؤى مجرد رؤى. وحتى مناظرية نيتشة لا تغير الأمر.
وما يعنيني هو التناقض الصارخ لدى عبد الرحمن: لا يمكن للمرء أن يدعي أنه مؤمن بالقرآن ثم يزعم أنه ما بعد حداثي. فإما الأول نفاق أو الثاني كذبة.
الخصائص الذاتية للدولة الحديثة
الحكم على الدولة الحديثة بأنها غير خلقية يناقض تاريخ الفكر السياسي والخلقي. فلا دولة بلا أخلاق ولا إمكان للأخلاق بدون دولة في كل الجماعات.
وحتى لو سلمنا بأن الدولة الحديثة بنت الحداثة الغربية حصرا فهل يقتضي ذلك أنها خالية من خصائص ذاتية للدولة التي لا تخلو منها كل الحضارات؟
فالدولة لها خصائص ذاتية لها من حيث هي دولة:
نظام مؤسسات وظيفته الحماية الداخلية والخارجية ونظام مؤسسات وظيفته الرعاية التكوينية والتموينية. وذلك منذ بداية التاريخ الإنساني إلى الآن: فهي تحمي أفرادها بعضهم من البعض داخليا
وتحمي الجماعة من الجماعات الأخرى خارجيا وذلك بخمس وظائف.
ففي الداخل لا بد من القضاء والأمن وفي الخارج لا بد من الدبلوماسية والدفاع وحتى تعمل هذه المؤسسات الأربع لا بد من جهاز استعلامات وإعلام.
ولا يمكن تصور الأخلاق موجودة من دون هذه الوظائف الخمس لأن العدوان والخوف من مقومات الحيوانية ولا بد له من وازع ذاتي وأجنبي (ابن خلدون).
ولا يمكن تصور بقاء الإنسان من دون رعاية جماعية تكوينا (التربية والمجتمع الأهلي) وتموينا (الإنتاج الرمزي والمادي) ونظام بحث علمي حول شروط القيام.
وهذه الوظائف العشر لم تتحقق فعلا إلا في الدولة الحديثة فكيف يزعم البعض أنها عديمة الأخلاق؟
ألأنها مؤسِسة الأخلاق صارت فاقدة لها؟
ما هذا؟
فليحاور أصحاب هذه الرؤى بوكو حرام وداعش وأدعياء ما بعد الحداثة.
دولة فقه الانحطاط ليست أخلاقية أصلا والدولة الحديثة أقرب إلى أخلاق القرآن.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock