المديونيّة… والإستقلال الثاني
سامي براهم
كلّما طرح قانون يتعلّق بدين من الدّيون تحت قبّة البرلمان ارتفعت الأصوات التي تحذّر وتندّد وتدين وتتّهم وتحمّل المسؤوليّة عن رهن البلد دولة وشعبا وأجيالا قادمة لتركة المديونيّة وتبعاتها التي يفرضها المانح الأكبر “صندوق النّقد الدّولي” على الدّولة بما يؤثّر على السياسات العامّة تحت عنوان الإصلاح الهيكليّ التي تعود بالسّلب على الفئات الضعيفة والطبقة الوسطى وعلى سيادة القرار الوطني.
بعض الأصوات تصدر في موقفها من المديونيّة عن تصوّر شامل للمنظومة الرّأسماليّة العالميّة ومؤسساتها وسياساتها في إخضاع الدّول واقتصاديّاتها وتدعو تارة إلى تحميل النّظام السّابق المسؤوليّة عن تركة ديون عهد الاستبداد وتدعو الدّول والمؤسّسات الدّائنة إلى طرح هذه الدّيون أو تحويلها إلى استثمارات خاصّة وأنّها كانت داعمة للدكتاتورية التي كانت قائمة، وتارة أخرى تدعو إلى استعادة الدّول لمستحقاتها لدى الفاسدين والنّاهبين المحليين من رجال أعمال ومستفيدين من النّظام السّابق.
والبعض الآخر لا يتبنّى موقفا شموليّا ولكن يدعو إلى الضغط على المديونيّة والبحث عن موارد داخليّة والالتزام الجزئي ببعض بنود الإصلاح الهيكلي وتوظيف الديون لتحريك عجلة الاستثمار والتنمية ومحاولة تقليص الدّين العامّ بالترفيع في الانتاج والتصدير.
في كلّ الحالات ليس من مصلحة أيّ طرف سياسيّ في الوضع الرّاهن حتّى الذين يتبنّون نهجا ليبيراليّا أن يغامروا برهن البلد لمديونيّة يمكن أن تدفع البلد للإفلاس والانهيار وللثورة من جديد، ثورة ستكون عنيفة وتفتح البلد على الفوضى والاحتراب الأهلي والتدخّل الخارجي والدّكتاتوريّة من جديد.
لكن ما ينساه أو يتناساه الكثيرون هو ما شهدته السنوات المتتالية بعد الثّورة من حركة مطلبيّة قطاعيّة مشطّة أقرب إلى النّهب العامّ لعلم المشرفين على هذه الحركة والمؤطّرين لها أنّ الزيادات التي فُرِضت بقوّة الشّارع والتّهديد والهرسلة واستضعاف الحكومات وإخضاعها، لا يقابلها وفرة في الانتاج ومؤشرا التنمية وانتعاش لميزانيّة الدّولة، ويعلمون كذلك علم اليقين أن ليس أمام الدّولة للاستجابة لهذه المطالب التي انفجرت بعد الثورة إلا الاستدانة للمحافظة على الاستقرار والسّلم الأهلي والأمن العامّ.
نفس الأصوات التي ترتفع اليوم عاليا تنديدا بسياسة الاستدانة والاستجابة لشروطها هي التي هرسلت الدّولة ودفعتها للاستدانة لتلبية مطالب الزيادات والاتفاقيات القطاعيّة ذات المفعول المالي الثّقيل.
نفس الأصوات التي تصم الحزب الأغلبي وشريكه بالحلف النيوليبيرالي الذي يعدّ امتدادا للمنظومة القديمة ومنوالها الاقتصادي وسياساتها التنمويّة وعلاقاتها المشبوهة بالمؤسسات الدوليّة المانحة إلخ، هي نفس هذه الأصوات هي التي تحالفت بالأمس مع هذا الحزب تحت عنوان الإنقاذ ونفّذت اجندته بشكل حرفيّ تحت عنوان تحالف حداثي حداثي أي بين يمين الحداثة ويسارها وقدّمت له الرّافعة السياسية للعودة إلى الحكم من جديد، فأضعفت مسار الثّورة وطاقتها على المقاومة وصياغة البدائل التنمويّة والاقتصاديّة وفي ادنى الحالات القدرة على الضّغط ومواجهة الانحرافات والسياسات المخلّة.
اليوم لم يبق غير رفع الأصوات بشكل مشهديّ زائف إمّا لإعلان البراءة أو لاستقطاب الناخبين، أو من أجل المغامرة والمقامرة والمراهنة على “فوضى خلاقة” تفتح البلد على المجهول.
مواجهة الميديونية تقتضي وحدة وطنيّة حقيقيّة صادقة حكما ومعارضة ومنظمات وطنيّة ومجتمعا مدنيّا ونخبا لفرض توظيف سياسة الاستدانة لإحداث نقلة على مستوى التنمية والاستثمار واستحداث الإجراءات القانونيّة والإصلاحات الإداريّة والموسّساتيّة التي تتتطلّبها.
التحرّر من الميديونيّة واقعا وسياسة هو بمثابة الاستقلال الثّاني الذي بدونه لا معنى للاستقلال الأوّل لذلك يحتاج إلى حركة نضال وتحرّر وطنيّ فوق الاصطفافات الحزبيّة والأيديولوجيّة والعقائديّة والهوويّة والقطاعويّة والفئويّة والأنانيّة والمصلحيّة الضيّقة لتحقيق هذا الاستقلال الثّاني.