حقّا إنّه زمن التسوّل الفكْري والبغاء الثّقافي
إنّ أي مجتمع لا ينتبه إلى ضرورتي الفكر والثقافة هو مجتمع فاشل مهدّد بالإندثار والذّوبان في أيّ عارض يأتي عليه، وأيّ مجتمع لا يولي الفكر وأهل الفكر الأهميّة البالغة وكذلك الثقافة وأهل الثقافة إنّما هو مجتمع هشٌّ غوغائي لا يمكن له تحقيق النّظام والتضامن الإجتماعي طالما لم تجمعه وتحيطه وحدة أخلاقيّة ثقافيّة ذات مرجعيّة قويمة…
كما أنّ أيّ تغيير مادّي -طبيعي أو ثوري- أو غيره لأيّ مجتمع لا يمكن له أن يستجيب إلى سنن التطوّر ولا كذلك إلى الإستقرار ولا يوفّر أبدا دعائم للتنمية والبناء ما لم يسبقه أو على الأقلّ يرافقه تغيير جذري في الواقع الفكري والثقافي لهذا المجتمع.
وما نعيشه في بلادنا هاته السنوات الأخيرة من تردّي للإقتصاد وهبوط للإنتاج وانعدام لخلق الثروة والتجاء حادّ للمديونية وسياسة الإستقراض الخارجي مع تدنّي المفاهيم وجمود للوعي والإدراك داخل التركيبة الإجتماعيّة زائد غياب الأمان النّفسي والمادّي وانتشار المفاسد وتعسّر التواصل السلوكي والخطابي في كتلة العامّة كما بين مجاميع السّياسة ومِن قبلها النّخب إنّما هو نتاج لانفصام واندثار للوحدة -الثقافيّة الفكرية- ذات المرجعيّة القويمة.
فالفكر والتفكير وأهل الفكر عندنا يعيشون أتعس أيّامهم، لم يعد هناك اعتبارا للحراك الفكري -محليّا- فضلا عن إنتاجه واستهلاكه، الفكر عندنا آخر سلعة تجد رواجا لها في مجتمعاتنا وخصوصا في دوائر السياسة وما يتصل بها، وحلّ محلّ ذلك إمّا الغوغائيّة أو (الإستهلاك الإستيرادي) لقوالب جاهزة معلّبة لفكر الآخر (الذي يسيطر ويتحكّم في مفاتيح السياسة والإقتصاد)، بالمقابل هناك جمود في العقل وانصراف عن المباحث الفكريّة إمّا إلى السّكون أو إلى -بغبغة- واجترار نتاج الفكر المستورد واستعماله بمرجعيّة أصل منبته بلا تعديل ولا تحيين في مختلف مناحي الحياة الإجتماعيّة والإقتصاديّة والسياسيّة، بل إسقاطا شموليّا وإقحاما عشوائيّا من مجاميع اليسار الفرنكوفوني على الواقع المحلّي مستعينين باحتكارهم لوظائف ومفاصل الفعل السياسي، وتحكّمهم -مجتمعين- في دوائر القرار المتّصلة بالتعليم والمباشرة لساحات الفكر وفعاليات الثقافة. وبهذا التوجّه والمسعى الأرعن فإنّ روافد الإنتاج الفكري باتت فقط بمرجعيّة التسوّل الفكري الفرنكوفوني والإستجداء المعرفي التّغريبي.
أمّا حال الثقافة فكان أسوأ وأتعس في هذه السنوات العجاف، إذا باستغلال خاطيء لمفاهيم الحقوق والحريّات وكذلك -ببركة- القائمين على الشأن الثقافي عندنا وما يحمل أكثرهم من عداء للهويّة والدين و-عشق- زائد للتغريب والإستئصال، فإنّ الثقافة حادت عن مدلولاتها ومفاهيمها ورسائلها لتنقلب إلى أدوات فساد وإفساد تتجلّى في -كاروكوزات- ماسخة في جميع مكوّناتها ومظاهرها. غاب الإبداع الحقيقي وانفصل الفعل الثقافي عن الموروث والمُتصوّر الأكاديمي واختلط الحابل بالنّابل ليخلص المشهد الثقافي السّائد إلى هرطقات وشذوذات تؤسّس (لبغاء ثقافي) ينحصر في مهرجانات العُري واستباحة مقدّسات وأخلاق الشعب أو الصطمبالي الغارق في الإسفاف وانخرام الذّوق،،، غاب الفنّانون الحقيقيّون وغابت الأعمال الفنيّة الحقيقيّة في النّشر والمسرح والسّنما والغناء وغيرهم، غُيّبت أعلام الثقافة وصنّاعها الحقيقيّون حتّى في التظاهرات والملتقيات وتجاوزهم مقاولو الثقافة وسماسرة الأعراس والمهرجانات إلى محترفي ومحترفات العراء والشذوذ السّمعي البصري، وتحوّلت -جوائز الأعمال- إلى (رْمواتْ أعراس) بمرجعيّة من يعرّي أكثر ومن يدفع أكثر ومن يبدي وقاحة وتفسّخا أكبر هو الفائز بالجوائز وهو أهل التتويج…
وتبعا لهذا فإنّ أيّة قراءة سوسيولوجيّة بسيطة لما آل إليه وضعنا (الإجتماعي) فهي تظهر تفشّي كثير من الإخلالات الإجتماعيّة والنّفسيّة الحادّة والمزمنة التي تتجلّى في مختلف تعاملات وسلوكيّات الأفراد والجماعات سواء العامّة منها أو حتّى النّخبويّة السّياسيّة الفاعلة في البلاد، أيضا وجود ضغوطات مستمرّة وإحباطات قد تتكثّف داخليّا وتختمر أو قد تأخذ طابع الإنفجارات في بعض الأحيان، انفجارات فرديّة محدودة الأثر أو انفجارات جماعيّة تتفاوت في النتائج والعواقب قد تصل إلى تعكير صفو الأمن العام والإضرار بالملك الخاصّ والعام ّ وإحداث الفوضى وتعطيل أسباب الإنتاج ومضاعفات أخرى.