السياسة الصغيرة.. تونس إلى أين ؟
الحبيب بوعجيلة
يصر “المتفائلون” على التنويه بسلامة الانموذج التونسي في الانتقال مقارنة باشباهه في البلدان العربية التي تغرق الان في دماء الحروب الاهلية الحارقة.
أغلب “المتفائلين” ينتمون الى جهات حزبية او جمعياتية “متمكنة” (من التمكين) و”محققة” وتتمثل اغلبها في قيادات ورموز الاحزاب الحاكمة من نهضة ونداء او من اعلاميين و”مثقفين” يتوسلون بحذلقاتهم المجاملة للنموذج نصيبا في التمكين والتحقق.
في المقابل يتوزع خطاب “الكارثة” و”النقد الدائم” بين المعارضين للفريق الحاكم بمبررات متنوعة تحكمها عوامل الصدق نادرا ودوافع “الخديعة” التي تفضح نفسها غالبا لدى المحرومين من شقوق النداء و”الانقاذ” او لدى “الرافضين” لشراكة النهضة في الحكم مطلقا.
بعيدا عن “تفاؤل” المتمكنين والمتحذلقين و”تشاؤم” الغاضبين لاجل نزواتهم لا نجد على ساحة الفاعلين بفريقيهم خطابا سياسيا كبيرا وعميقا يرصد حقيقة وضع البلاد الذي لا يبدو انه في وضع انتقال سالك وآمن وان كان اقل كارثية من خراب الاوضاع في بلدان “الربيع الدموي”.
العارفون بمطابخ المشهد السياسي التونسي بجميع مستوياته الحزبية والاعلامية والثقافية يدركون تماما حجم “الرثاثة” التي تحكمه حيث تسود الدسائس والمؤامرات ويحكم الفساد وتغيب الرؤى والتصورات الاستراتيجية الكبرى القادرة على مجابهة مجمل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البلاد وحيث تغيب الجدية في استشراف مستقبل البلاد في وضع دولي واقليمي تحكمه صراعات المشاريع الكبرى بين الاقوياء والمقتدرين الذين تبدو امامهم طبقتنا السياسية باحزابها وزعمائها ومثقفيها واعلامييها مجرد “اطفال صغار” لا يتجاوز اجتهادهم في تدبير شؤون تونس اكثر من “لعب بالتراب والليل مغسي” على حد تعبير ابي القاسم الشابي وهو يصف غيبوبة التونسيين في مفتتح القرن الماضي.
احساس غالبية الشعب التونسي بغموض المرحلة ومخاطرها يبقى دليلا على سلامة “الوعي الفطري” للشعوب ولكنه وعي لا يجد من يكبر به ليصبح وقودا لبناء تونس الكبيرة بعيدا على صغائر الهواة ممن جعلوا اكبر همهم في البقاء والاذان على كدس غبار.
قواعد الاحزاب و”النشطاء” على هذا الفضاء الازرق مثلا من المعارضات التي تدعي انها خط ثالث بين التفاؤل الغبي للحكام والتشاؤم الهدام للمعارضة الوظيفية.. هؤلاء “الصادقون” لا يقدمون بدورهم “افكارا كبيرة” لمعالجة الوضع وبناء المستقبل اذ لا يتجاوز جهدهم اكثر من ملاحقة المعارك الصغيرة التي يثيرها فريقا المتفائلين والمتشائمين غير ميالين في الغالب الى نقاش عميق او متابعة تفكير هادئ لا ينساق مع هذين الفريقين في هذه التخميرة وخير دليل على ذلك ان اكثر المشاركات ومظاهر الاعجاب والتداول تتم على هذا الفضاء للصغائر والمماحكات ومتابعة كواليس المتنافسين على حكم “النموذج التونسي” الذي يصنع اشكالياته وحروبه كبار “الموجهين” من اصحاب المال والاعلام ووكلاء قوى دولية تخدرنا باكذوبة سلامة نموذج تونسي “صغير” لاشك ان لا دماء فيه ولكنه مؤذن ببقاء تونس بلدا يعاني من “فقر الدم” يعيش ولا يحيا.
شكرا يا استاذ