وجهة نظر، هل في مشهدنا قوى جديدة ؟!
زهير إسماعيل
لستَ محتاجا لكي تكون ناشطا سياسيّا حتى تتبيّن عمق الأزمة التي تعيشها البلاد، بل لعلّ الانغماس في شأن السياسة من منظور حزبي قد يحجب عن الناشط السياسي حقيقة “السياسي”.
الناشط السياسي “المعارض” لا يجد صعوبة في اكتشاف “أزمة الحكم” ولا غبار عن صدقه في إظهار مستوياتها وآثارها السلبيّة ولكنّه لا ينتبه بسهولة إلى أنّ مستويات من هذه الأزمة موجودة فيه هو أيضا.
السنوات الست الماضية كانت تجربة في غاية الأهميّة لمن أراد أن يستخلص الدرس. ولن أعود في الحديث عنها إلى القديم والجديد والتأسيس والانتقال الديمقراطي واعتصام الروز والحوار الوطني والحبيب الصيد ويوسف الشاهد بالتفصيل، ولكن سأكتفي بالحقيقة التالية. وتتمثّل في أنّ الجميع، والجميع هو كل الطيف السياسي بعائلاته السياسية وأحزابه، قد مارس، في السنوات الست الماضية، الحكم والمعارضة، بطريقة ما ولمدّة ما. قد يكابر البعض ويقول إنّه لم يشارك في الحكم بعد الثورة، ولكن جردا لقائمات الوزراء وكتاب الدولة والولاة في هذه السنوات سيظهر أنّ الجميع عرف الحكم والمعارضة. وهذا ما يفسّر أنّ التهم السياسيّة كـ”الفشل” و”التغوّل” و”الزبونيّة” و”الطرابلسيّة الجدد”…الخ صارت أعدل الصفات قسمة بين مكوّنات الطبقة السياسيّة، رغم الفروق التي لا تخفى. فمن حكم ستّين سنة ليس كمن حكم بضع سنين في الظروف المعلومة.
ما يُستخلص هو أنّ الأزمة تعلّقت بالطبقة السياسيّة قاطبة، وإنْ اختلفت درجة هذه الأزمة ومستوياتها ومظاهرها. وأنّ عودة القديم في 2014 بقدر ما كانت عنوانا على فشل “الجديد” (أضعه بين مزدوجتين لأنّه ليس جديدا) في الوصول بالمسار التأسيسي إلى غاياته كانت أيضا، بعد أن حكم القديم أكثر من سنتين منذ 2014، دليلا على عجز القديم على التجدّد وأنّه آيل إلى الاضمحلال. وما تفكُّك واجهاته السياسيّة وانقسامها إلى شقوق موجّهة برموز مافيا المال والأعمال إلاّ مرحلة أولى من هذا الاضمحلال.
الأزمة، رغم اختلاف مستوياتها ودرجاتها ومظاهرها، تشمل كافّة الطبقة السياسيّة. ونعلم جميعا أنّ لونا سياسيّا واحدا تقريبا حكم لأكثر من ستّين سنة، ولم يكن لتحالف معظم اليسار الماركسي مع بن علي لعشريّتين أن يغيّر من هذه الحقيقة. فالنظام في أذهان الناس هو النّظام.
لذلك، فإنّ أهمّ إنجاز للثورة أنّها مخضت، في ست سنوات، كلٌ الطبقة السياسيّة وتمكّنت من أن تستخلص “زبدتها”. ولعلّ أهمّ ما استُخلص هو أنّ ثنائيّة حكم/معارضة في مرحلة الاستبداد لم تتحوّل إلى ثنائيّة قديم/جديد. رغم توهّم قوى المعارضة التي جمعها الاستبداد أنّها تمثّل “جديد الثورة” أو “الجديد” في السياق الثوري.
أن تكون “معارضا” زمن الاستبداد لا يجعل منك بالضرورة “جديدا” زمن الحرية. فـ”المعارض” أمس ليس مرادفا لـ”الجديد” اليوم.
كان انقسام “المعارضة” بعد انتخابات 2011 وتحالف بعض مكوّناتها مع القديم في جبهة الإنقاذ حدثا فارقا. وقيل يومها: إنّ الفرز طال قوى الثورة نفسها فانحاز “قديمها” إلى النظام القديم وانحاز “جديدها” إلى الثورة ليقود مسار التأسيس. ولكنّ منظومة الحكم التي أنتجتها انتخابات 2014 (ضمّت المكون الأكبر في الترويكا) تظهر أنّه لم يكن للثورة جديد.
فالمعارضة في مرحلة الاستبداد لم تنجح، ولا يمكن أن تنجح، في أن تكون جديد الثورة. بل تثبت اليوم أنّها كانت جزءا من “إيديولوجيا الدولة الوطنيّة” التي انكسرت أمام انتفاض الهامش المفقّر الجذري.
وإذا أردنا تلخيص ما عرفناه في السنوات الستّ الأخيرة، قلنا إنّنا عرفنا ثلاث مراحل في “جدل السياسة”: القضيّة والنقيض والمركّب، أو الأطروحة ونقيض الأطروحة والتأليف (وهذا من الفلسفة الكليّة).
فقد مثّل “التأسيس” القضيّة أو الأطروحة التي قدّمتها الثورة، ومثّل “الانتقال الديمقراطي” وعودة القديم مع الحوار الوطني نقيض الأطروحة (كنا نسميه انقلابا على المسار التأسيسي، وثورة مضادّة)، ومثّلت منظومة الحكم المنبثقة عن انتخابات 2014 (الرباعي الحاكم، ثم حكومة الوحدة الوطنيّة) المركّب أو عمليّة التأليف. وهي ليست عمليّة تركيب تامّ ولا تأليف جذريّ. بل كانت تأليفا ناقصا، لذلك كنا نقول إنّ حكومة الشاهد ليست حكومة وحدة وطنيّة. وما تعرفه اليوم من أزمة حكم وأخلاق وسلوك وعجز عن مواجهة الأزمة الماليّة الاقتصاديّة يؤكّد هذا الموقف.
الأصل في التأليف أن يكون عمليّة تجاوز للأطروحة ونقيضها، وهو ما يعني أنّ التأليف سيكون هو الجديد المنبثق من السياق الثوري. ولكنّ هذا الجديد لم يظهر. فمعارضة بن علي بمختلف مكوّناتها لم تنجب جديدا. وما حيرة الناس في اختلاف هذه المعارضة وشقّها واستدراجها من قبل القديم في 2011 وفي 2014 إلاّ لتوهّمهم أنّ مادة الجديد، بل هي “الجديد”. ولكن الحقيقة أنّ الجديد لم يخرج، ويبدو أنه لن يخرج، من رحم هذه المعارضة.
هذا التأليف الذي لم يبلغ مداه ولم يكن “جدليّا” (موضوع يغري بالبحث في أسبابه)، هو الذي يفسّر ازدواجيّة السلطة نتجت عن انتخابات 2014. وهي الحقيقة التي نعيشها في الحكم والمعارضة. إذ نجد في الحكم نظامين متجاورين (النهضة والنداء)، وفي المعارضة معارضتين متجاورتين (وظيفيّة وعضويّة).
الجديد لم يولد بعد، رغم أنّه أطلّ برأسه، في بداية الانتفاض الجذري في الهامش المفقّر، ورغم بعض اللُّمَع التي يُطلقها من حين لآخر (جمنة، الانتفاض الاجتماعي الصميم، فكرة الحكم المحلّي التي تبحث عمّن يخوض معركتها الحقيقيّة لا مجرّد الاكتفاء بالشعارات العامة).
كأنّ الجديد أجّل ظهوره، حتى يعطي الفرصة للقديم الذي يشكّل اليوم المشهد السياسي في الحكم والمعارضة ليشهد بعجزه عن الخروج بالبلاد من أزمة هيكليّة مزلزلة اختلط في السياسي بالاقتصادي والأخلاقي بالاجتماعي، جعلت من عزوف الناس عن السياسة، بل يأسهم من جدواها (حتى محاربة الفساد لم تسلم من المنحى الشعبوي)، بل خوفهم من غزوها من قبل المافيا وأخلاقها، نتيجة غير منطقيّة ولكنّها واقعيّة جدّا.
الجديد لم يولد بعد، ويبدو أنّه لن يكون تركيبا من هذه التجربة التي انطلقت منذ ست سنوات، أو تأليفا بين عناصرها (مخرجات الإيديولوجيا الوطنيّة المهزومة المسماة بعد الثورة زورا قديما وجديدا). كل المؤشرات تدفع إلى أن الجديد سيكون “نقيضا” لهذا “التأليف” ولهذا “المركّب” وليس نتيجة له. وما لم تفتح الأبواب أمام هذا الجديد فأنّه سيضطرّ إلى دفعها وخلعها… فأعراض الانتفاض الجذري أوضح من أن تخطئها العين.