بابا عزيزي وين ماشين ..
إنّ كلّ عاقل بقي له شيء من الحبّ لهذه البلاد الطيّبة وله بعض من الوشائج التي تؤهّله لمرتبة (الوطنيّة) لَيقفُ حقّا حائرا متشابك الأحاسيس وضائع الفكر في ما آلت إليه حالة البلاد والعباد هذه الأيّام،،
غوغائي ومحزن وكثير الألم ما يمرّ به عموم المشهد العامّ الذي نعايشه ويلازمنا، مشهد يضع كثيرا من الأسئلة التي يغيب الجواب عنها وخصوصا أكبرها وأهمّها وهو : أحنا وين ماشين، وين ماشية السفينة بينا، زعمة يجيها نهارْ وتدخل برّ الأمان؟ زعمة ينْصلحْ حال البلاد والعباد،،، هذا بالطبع ما يتوق إليه خاطر كل تونسي غيور وشهم وكذلك ينتظره.
كلّ عاقل أيضا يلحظ واضحا وبلا عناء ولا دمغجة أنّ :
■ تقريبا جلّ الأحزاب الفاعلة أغلقت وراءها الباب بمجرّد أن نالت حقيقة ما أرادت من الإنتخابات وتمكّنت فانكفأت على نفسها ترتّب بيتها الدّاخلي، تقسّم المراكز وتسوّي في مغانم مركزياتها، كما أنّها وظّفت كامل وقتها واهتماماتها في (بورصة) آليات السّلطة واغتنام مواطن القرار بمقايضات وتنازلات بينيّة تحت بند المصالح الذاتية وما يعبّر عنه (نفاقا سياسيّا) بالحفاظ على الوحدة الوطنيّة. هذه الأحزاب لم يبق لها من حبل الوصل مع قواعدها إلا بعض الترابط الإفتراضي أو الممارسات الفلكلوريّة المناسباتيّة والضحك على الذّقون..
■ أزمة ثقة بين المحكوم وحاكمه برغم تنوّع الحكومات وتعاقبها وتعدّد المسمّيات والأسماء، فالشّعب لم يعد يجد في نفسه صدى المصداقيّة في أيّ وعد يقطعه أيّ سياسيّ أو يبشّر به، بل إنّ كلّ فعل يمسك بطرفه هذا السّياسي يصبح في نظر العوامّ قبل خاصّتهم سفسطة في حكم العدم.
■ وضع إجتماعيّ مرّ من الهشاشة ليستقرّ على صفيح ساخن، زاده إعلام الأجندات والخدمات، قتامة ورداءة واستكانة بعد انصرافه عن حقائق الواقع وما يهمّ المواطن الغلبان إلى الإنخراط في موجات من المهاترات اليوميّة، مهاترات ممنهجة تصبّ كلّها في الترويج للشّذوذ الفكري والجسدي وتطبّع مع الإنحلال والدّوس على القيم والأخلاق ورفض الدّين والهويّة، مهاترات يظهر أنّها ستُفضي إلى عكس ما كان هذا الإعلام المفسد الوصول إليه، وقد تعمّق الإحباط والنقمة والبحث عن بديل يمكن أن يكون -لا قدّر الله- هو الخطر (المختمر) وهو الوبال بعينه.
■ وضع إقتصادي كلّ يوم يوغل في التردّي مع سلبيّة النموّ وانهيار الدّينار وانعدام الإستثمارات وخلق الثّروة، تآكل الطبقة المتوسّطة لتتعزّز الطبقة البورجوازيّة السّابقة بأخرى أكثر اتّساخا تتكوّن من جماعة الإحتكار والتهريب والتجارة بالممنوعات والموبقات وما شابه. بينما تكبر طبقة الفقر والتهميش حدّ الإجحاف وإلى حدّ فقدانها أبسط مستويات العيش حافْ فما بالك بالكريم.
■ إرهاب يحاصر البلاد يتهدّدها في كل وقت وحين، إرهاب يظهر ويختفي ويتحرّك أيضا بتوقيتات مشبوهة وفي أمكنة بعينها. لكنّه يبقى دوما سيْفا مسلّطا على رقاب العباد يجعل من التصدّي له (واجبا وطنيّا) على الكلّ بلا استثناء فعلا لا تنظيرا لكنّ الدولة لم تتحرّك مادّيا في هذا الإتّجاه ولم تعزّز المؤسّسات الأمنية والعسكريّة بما يفي بالغرض.
■ أخيرا وليس آخرا تبْقى ملفّات الثروات والمخزونات الطبيعيّة الوطنيّة ألغازا تراوح مكانها بدون وقوف جديّ على مدى حقائقها ولا ملامسة حدودها، بل قُدّر لها أن تصبح ملفّات حارقة لكلّ من يجرأ على الإقتراب منها، ملفّات يلفّها الغموض من كلّ جانب تلازم مكانها في الأدراج المقفلة وتُصنّف خارج عِداد المباحات ليبقى الفسدة واللّصوص خارج دوائر التتبّع…
كل هذه الحلقات تتقاطع وتتشابك عند المواطنين على اختلاف مشاربهم، بل قد تنقلب في أكثر الأحايين إلى دوائر من الشكوك تزيد في تعقيد الحياة اليوميّة وتبعث إطّرادا كتلات من الإحباط والقلق على المستقبل من الأيام وأيضا كثيرا من الملل والتخوين لكلّ المشهد السياسي..