2 مارس 1934، تاريخ من الإنقلاب على إرادة الشعب ورفاق النضال
لطيفة شعبان
أصوات عديدة تتعالى اليوم في تونس، تروم الهيمنة على المشهد السياسي، من خلال جبة “بورقيبة” و”أمجاد البورقيبية”، كما أضحت “المنستير” وتحديدا مدينة “قصر هلال” محجة وقبلة لهم. هؤلاء يجعلون من تاريخ 2 مارس 1934، تاريخا رمزيا لمشروعهم وذكرى يرومون احياءها. ولسائل أن يسأل، ما هي رمزية 2 مارس 1934، بالنسبة للحركة الوطنية في تونس؟ والى أي مدى يمكن أن يكون لحظة فارقة في تاريخ الوطن؟ وما الذي قدمته “البورقيبية” منذ ذلك التاريخ الى 7 نوفمبر 1987 -علما أن الفترة النوفمبرية هي سليلة البورقيبية- لتكون اليوم مثالا أو نموذجا يحتذى به؟
منذ وطأت أقدام المستعمر الفرنسي أرض هذا الوطن، تعالت أصوات وبنادق المعارضين لهذا الاحتلال، معارضة تزعمها قادة قبائل في الوسط الريفي، ونخب في الوسط الحضري، في مرحلة أولى، قبل أن ينتظم التونسيين في تكوينات سياسية وثقافية، هدفها بث الوعي الوطني لدى التونسيين، ودحر المستعمر. بدأ هذا التنظم مع حركة الشباب التونسي سنة 1907، التي خاضت نضالا ثقافيا، تجلى من خلال صحيفة “الحاضرة” و”التونسي” -ناطقة بالفرنسية- ومنابر “الجمعية الخلدونية”، وسياسيا وميدانيا، برز خلال أحداث الجلاز سنة 1911، وأحداث التراموي سنة 1912. وتجذر الفعل النضالي المقاوم مع تأسيس “الحزب الحر الدستوري التونسي” سنة 1920، الذي عمل على الانتشار داخل أرجاء البلاد بتركيز الشعب الدستورية كفضاءات لنشر الوعي الوطني والنضالي واستقطاب الفاعلين، الى أن وصل عدد الشعب الدستورية بالبلاد غداة 2 مارس 1934، الى 70 شعبة دستورية، منتشرة في جميع أرجاء البلاد، من شمالها الى جنوبها، وهو ما يدحض الروايات التي روجها “بورقيبة” ورفاقه من أن الحزب الحر الدستوري “القديم” كان يفتقد الى الانتشار والشعبية. على مستوى آليات العمل، عمل الحزب الحر الدستوري “القديم” على تنويع طرق نضاله وعلى استقطاب الطاقات الشابة والمجددة في الفكر وفي الممارسة وما ادماج جماعة “العمل التونسي” بمن فيهم “الحبيب بورقيبة” و”محمود الماطري” وغيرهم، ضمن اللجنة التنفيذية للحزب أثناء مؤتمر “نهج الجبل” المنعقد بالعاصمة بين يومي 12 و13 ماي 1933، الا دليل على انفتاح هذا الحزب على كل من يقدم الاضافة للحزب وللوطن. كما عمل هذا الحزب على الضغط على سلط الحماية من خلال البرنامج الذي تبناه مؤتمر “نهج الجبل” والذي أجمع خلاله المؤتمرون على المطالبة “بتحرير الشعب التونسي” وهو ما يعني رفع مطلب الاستقلال، مطلب سرعان ما تخلى عنه زعماء “الديوان السياسي” المنبثق عن مؤتمر “قصر هلال” وبالتحديد “الحبيب بورقيبة” خلال توقيع اتفاقيات الاستقلال الداخلي سنة 1955. لطالما كانت تعلة زعماء مؤتمر 2 مارس 1934، بقصر هلال، أن “أعضاء اللجنة التنفيذية قد ساروا بالحزب في طريق الضعف والاستسلام حسب عادتهم في الماضي…” (مقتطفات من لائحة مؤتمر قصر هلال في 2 مارس 1934)، ولما استتب لهم الامر ساروا في طريق الضعف والاستسلام.
هكذا اذا يبرز أن مؤتمر قصر هلال لم يكن إلا مؤتمرا للانقلاب على ارادة الشعب الذي انخرط بوعي وقناعة في النضال من أجل الاستقلال تحت راية الحزب الحر الدستوري “القديم”، وقياداته التاريخية، وتركيز حزب جديد، سرعان ما تخلى عن الشعارات التي رفعها، والثورية التي برزت في خطابات ومقالات زعمائه في الخمسينات، بتبني شعارات جديدة مثل “البراغماتية” و”ضرورة المرحلة” وغيرها من الشعارات التي حرَموها على قادة الحزب القديم. ووصل الامر بـ”زعيم” انقلاب 2 مارس 1934، “الحبيب بورقيبة”، الى التخلص من كل من عارض تمشيه “التكتيكي” والمقصود بذلك جماعة “الأمانة العامة” بزعامة “صالح بن يوسف”.
لم يكن في الحقيقة والواقع مؤتمر قصر هلال، إلا افرازا لقيادة جديدة، تسكنها روح “الأنا” والانفراد بالرأي والقرار، بعيدا عن التشريك والديمقراطية، وهو ما برز من خلال اصرار “بورقيبة” على المضي قدما في اتفاقيات الاستقلال الداخلي رغم معارضة رفاقه في الحزب وانقسام الشعب والحزب الحر الدستوري “الجديد” الى قسمين، قسم موال للاتفاقيات وبالتالي لخيار “الحبيب بورقيبة”، وقسم موال للأمين العام للحزب “صالح بن يوسف” -وهو يمثل الاغلبية-، حيث أعلنت 374 شعبة عن مقاطعتها للديوان السياسي وقررت 350 منها الانتماء لليوسفية، من خلال اعلانات نشرت بالصحف التونسية الصادرة آنذاك. كما أن الجامعة الدستورية بالعاصمة والمتكونة من 31 شعبة دستورية وتضم 60.000 منخرط قد أعلنت انضمامها الى الامانة العامة، كما أن اليوسفية كانت تلقى دعما عسكريا من “جيش التحرير الوطني” -بالمقابل لقي بورقيبة وجماعته دعما من سلط الاحتلال الفرنسي-. هذا على المستوى الداخلي، أما على الصعيد الاقليمي والدولي فقد كانت الأمانة العامة تحضى بدعم النظام الناصري بمصر والثورة الجزائرية الى جانب الدعم الذي تلقاه من “مؤتمر باندونغ” الذي تمخض عن بروز دول “عدم الانحياز”. رغم هذا الاجماع الشعبي والدولي على رفض مسار “المرحلية” الذي توخاه “بورقيبة” وأنصاره، فقد توخى هذا الاخير سياسة القفز الى الأمام، بتشويه معارضيه ووصل به الأمر بعد استقرار السلطة بين يديه، الى التصفية الجسدية لكل من التصقت به تهمة “اليوسفية” بدءا برفيقه في النضال الأمين العام للحزب الحر الدستوري”، “صالح بن يوسف”.
هذا هو بورقيبة، زعيم مؤتمر قصر هلال، وتلك هي البورقيبية في أبهى تجلياتها، تاريخ من الانقلابات على ارادة الشعب وعلى الشركاء في النضال والفكر والسلطة. لم يكن تاريخ 2 مارس 1934، الذي يتبرك به جمع من سياسيينا، الا تاريخ الالتفاف على نضالات الشعب ومنجزاته وفعله. تلك هي “البورقيبية”، التي يبشر بها ويتباكى عليها أيتام “بورقيبة”، فما الذي قدمته “البورقيبية” لتونس والتونسيين طيلة عقود من الزمن لتكون ملجأهم اليوم؟
على المستوى السياسي، لم تكن البورقيبية سوى تكريس لهيمنة الحزب الواحد والزعيم الأوحد وفشلت فشلا ذريعا في خلق دربة على الممارسة الديمقراطية سواء داخل الحزب، أو في البلاد، وتوجهت عوضا عن ذلك الى عبادة وتقديس الفرد فكانت بذلك اعداما لمستقبل تونس السياسي بفعل منع تراكم النخب بمحاصرة المعارضين والتضييق عليهم.
على المستوى الاقتصادي، فشلت البورقيبية في خلق اقتصاد غير تابع بسبب فقدانها لفكر اقتصادي واضح المعالم، أو نموذج تنموي مستقل، بل كانت تعتمد على التجربة، فتعددت بذلك التجارب التنموية وكان رؤساء الحكومات المتعاقبة أكباش الفداء التي تقدم عند كل فشل، أما النجاحات فكانت ترد الى الزعيم الاوحد.
على المستوى الثقافي لم تكن “البورقيبية” سوى استنساخ مشوه لمشائخ الزيتونة المتنورين أمثال الشيخ الثعالبي والطاهر الحداد. وقد كان لعدائه الصريح للعروبة والإسلام انعكاسه الواضح على مناهج التعليم، التي همشت اللغة العربية أمام لغة المحتل في بلد مستقل، وهو ما أنتج جيلا عاجزا عن تمثل هويته والاعتزاز بها.
فعن أية بورقيبية يتحدثون؟ وبأية أمجاد يتغنون؟