باعتبار أنّ البلاد كانت ترزح تحت وطأة الدكتاتوريّة الإقصائيّة للحرّيات الفرديّة والحجْر على الأنشطة الفكريّة وتهميش الدّين الإسلامي طيلة ما يناهز الستّة عقود من الزّمن وتغريب النّاس عن عقيدتهم وهويّتهم،،، فإنّ التصحّر الفكري وانعدام المفاهيم الصحيحة للدّين أصبحت هي السّمة الكبرى عند غالب الشعب التونسي حتّى أنّ أحد مشائخ الشّرق يوما نصح بفتح جديد للبلاد التونسيّة.
أصبح السّواد الأكبر من الشّعب يتعاطى مع الدّين الإسلامي كموروث فلكلوري تنحصر مفاهيمه في القيام بالطقوس الموسميّة ولا يعي من الفقه إلاّ بعضا من فقه العبادات في إطاره الضيّق،،، حتّى بعضًا من الشّعائر (لغياب العلم الشرعي) حادت عن مقاصدها ولفّتها تهميشات العُرف الجاري والبدع وذلك لعدم وضوحٍ لدى العامّة للمفاهيم الصحيحة للتشريعات والتكاليف الشرعيّة.
نتيجة الفصل القسري للدّين الإسلامي عن الحياة العامّة،،، حيث مُنعت الدّروس الفقهيّة والدّعويّة، وصودرت ومُنعت الكتب التي تتناول فقه المعاملات والسّياسة الشرعيّة والعلاقات العامّة وغُيّب أهل العلم والإختصاص وألجم وكُبّل الأئمة والخطباء وحوصرت المساجد…
كما أنّه وللأسف قد ساهم كثير من الأئمّة (المنصَّبين) طيلة العهدين السّابقين في ترسيخ هذا المنهج بخُطب منبريّة عجفاء، صمّاء كليالي الشتاء في طولها وصقيعها حتّى مجّ النّاس كلامهم. حادت هذه الخُطب عن أهدافها وأفرغت من محتواياتها وصارت في أيدي الجهلة الذين انخرطوا في تمجيد الظّالمين والدّعاء لهم وحشوا كلامهم بالحديث عن عيد المرأة وعيد الشّجرة والتنظيم العائلي والعودة المدرسيّة، أمّا (غُلاتهم) فقد كانوا يسوّقون لسياسة الحاكم ويتوسّعون في مدح انجازاته للدّين (فهو بهم كان حامي الحمى والدين) ولم ينسوا الدّعوة الإشهارية كلّ مرّة لصندوق 26/26 والإحتفال بالسّابع من نوفمبر حتّى كادوا يلحقونه بالواجبات والتكاليف الشرعيّة.
أمام هذا الوضع، صار من الواجب اليوم على كلّ العلماء وخصوصا أئمّة المنابر أن يتحمّلوا المسؤولية الضّائعة والرسالة المغيّبة، يتحمّلوها بكلّ تكاليفها وأوزارها، لأنّ الواقع ازداد سوءً بعد الثورة مع تنامي دعوات الفساد والإفساد وظهور الشذوذات الفكريّة والجسديّة للعلن وتكاثر التهجّمات الماجنة والمفسدة على الدين والشريعة والهويّة إضافة إلى انحدار الإعلام وميله إلى استباحة المنكرات وتعويد النّاس على معاقرة المفاسد في برامجه وانتاجاته.
أئمّة المنابر وتعدادهم يفوق الـ 5000 إمام على طول البلاد وعرضها لكن لا نكاد نسمع لهم ركزا ولا نرى لخطبهم أثرا لا ماضيا ولا حاضرا، أئمّة المنابر يتحمّلون -على الأقلّ أخلاقيّا- وزر كثير من انحرافات المجتمع وضياع كثير من المفاهيم والسلوكات ذات المرجعيّة الإسلاميّة وتداخل البدع والترّهات،،، نعم الطريق شاقّ والعقبة كأداء لكن تكاتف هؤلاء الأئمّة وإخلاص خطبهم لوجه الله دون سواه والإعتصام بكتاب الله والإهتداء بسنن الرسول الأعظم والتصدّي لأي ضغوطات لا تستجيب للشريعة،،، كل هذا مع قوّة الشخصيّة والإيمان بالرسالة المنبريّة وضرورة تحيينها كافٍ لإصلاح الخطاب الديني ويرفع بعض الحرج على الأئمّة.
الإمامة رسالة ومسؤوليّة عظمى لا تقبل الإستهانة ولا التهاون ولا تسمح للقائم بها الإنخراط والوقوع تحت جبّة الأحزاب ولا النّقابات ولا أيّ تنظيم يحدّ أو يتعارض مع الرسالة المنبريّة، ومن لا يجد من عمله ثمرا فليقوّم نفسه أو ليترك الأمر لمن هو أكفأ.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.