خُبزي وخبزُ أمّي
بشير العبيدي
#رقصةُ_اليراع
أوقفتُ سيّارتي قبالةَ مدخل البيت حيثُ تقيم تلك الّتي من أجل رضاها، أرضى أن أكون خيطاً في ذيل ثوبها.. أسكتُّ المحرّك بتؤدّةٍ وهممتُ بالنّزول، لكنّي تريّثتُ للتّأمّل برهةً. لا أشكّ أنّ حدسها قد دلّها على وجودي دون حسٍّ. لأنّي لمحتها من بعيدٍ وهي تتحسّسُ بيديها المرتعشتين مستنداً تستمسك به لتقوم واقفةً، فلمّا لم تعثرْ على شيءٍ تطاله يداها، بسطتْهما أمامها وانكبّتْ لتستجمع كلّ ما أبقت لها سنون الشّقاء من طاقةٍ، لتقف حانيةً حنوّ الظّئر على رضيعها. نزلتُ من السّيّارة متسلّلًا مرتبكاً، فإذا بها تتسمّعُ حفيف مشيتي فعرفتني قيافةً من إيقاع خطوتي ونادتْ:
– ولدي يا كبدي!
– فقلتُ: أمّي يا روحي!
– فقالت: حمداً لله على سلامتك!
ومدّتْ إلى جهتي يمناها، وقد شنشن سوارها الفضّيّ في معصمها، فجثوتُ ألثم يدها النّاعمة الضّعيفة، وأمسح براحتها على وجهي كمن يدَّهِنُ بالطّيب المعتَّق، وضممتها ضمّ المشتاق الولهِ، واجتمع حولنا الأطفالُ كالمصابيح، وسلّموا واستبشروا، ثمّ رافقتُها خطواتٍ حتّى أجلستُها حيث كانت تنتظرني، وجلستُ على الأرض حذوها، أخبرها عن آخر أخباري وأخبار أسرتي…
لقد كانت مبتسمةً مسرورةً منبسطةً، ونادتْ بعمل الشّاي، وإحضار العصائر والطعام، متعذّرةً كعادتها بذهاب بصرها وقوّة جناحها، ثمّ أخرجتُ لها هدايا الملبس، فقلّبتْها كالطّفلة سائلةً عن الألوان والأشكال، وناولتُها هدايا المأكل، فاستلذتْ خبزاً طريّاً، وافق هشوشه ذهاب الأسنان، فقالتْ وطفقتْ تدعو لي:
– كم هو لذيذٌ هذا الخبز الفرنسيّ، يا بنيّ: “جعلك الله دوماً كالزّيت على الماء” … “الله يسترك في الدّنيا والآخرة” … “جعلك الله نوّارةً”…
فحملني استحسانها للخبز الفرنسيّ إلى عالم غائرٍ من الذّكريات البعيدة، حين كنت أرى أمّي في عزّ الظّهيرة يَصْليها صَهْدُ الشّمس ويقلّيها لهيب الفرن، وهي تطهو أقراص الخبز الأسمر، فتلصق على جدار الفرن الطّيني قرصاً، وترشّ الماء على قرصٍ، وتجمّرُ قرصاً، وتخرجُ قرصاً احمرّ واستوى، فتمسح رماده بيديها في حركةٍ بارقةٍ، وتمرّر به على طرف مُلاءتها القرمزيّة، ثمّ ترتّب أقراصها بحنان على مائدتها الخشبيّة المتهالكة، حتّى إذا فرغت حملت أقراصها إلى فناء المنزل، فجلست ومسحت عرقها بطرف ملاءتها، ثمّ مدّتْ إليّ بقطعة خبز أسمر ساخن بعد رَيّها بالزّيت، فأجلسُ قبالتها آكلُ وأتأمّلُ خطوط ردائها التّونسيّ، وحزامها الصّوفيّ، وحليّها الفضيّة…
خبزي الفرنسيّ لذيذٌ أمّاهُ؟ لا والله، لن يكون خبزي الّذي جلبته إليك من باريس ألذّ من خبزك أبداً. فخبزك معطّرٌ بعرقك، زرعتِ حبّه بيديك، ورحيتِ ثمرته برحاك، وغربلتِ سميده بغربالك، وعجنتِ عجينه بماء أرضك، وأشعلتِ فرنه بحطب شجرك، وخبزتِ أقراصه براحة يدك، ودهنتِ وجهه بزيت زيتونك، ثمّ مددتِ إليّ يدك تطعمينني… فذاك الخبز يا أمّي فيه سرٌّ وسحرٌ، وهو إكسير الحياة المركّب، تفاعلتْ فيه كلّ معادن الأرض التّونسيّة، وزاده عرق جبينك عطراً ورونقاً ومعنى. وإن كان قد صار من المحال عليّ اليوم أنْ أسدي إليك بعضاً من جميل ما صنعتْ يداك، وأن أدفع عنك وعنّي أذى حرماني من واجبٍ وفخر إسعادك، فإنّي ألبسك اليوم بكلماتي حللاً قشيبةً، وأرديةً مورّدةً من الاعتراف، وألبسةً موشّاةً بشمائل البرّ. ولن يطيب ـ أمّاه ـ خبزي الباريسيّ أكثر ممّا طاب ـ زمن طفولتي ـ خبزك أبداً.
ولو جمعنا كلّ خبز الأرض ونزعنا منه نكهة الأمومة، لأمسى حبّ الفناء أشهى إلى الكائنات من حبّ البقاء.
من كتاب : خواطر الأنفاق وبشائر الآفاق ص 74
باريس – ربيع الآخر 1438
كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا