دستور سوريا والمطامع الروسية الإيرانية
ليلى الهيشري
يحتل الدستور، باعتباره احدى مصادر القانون الدستوري، أعلى مرتبة في التدرج الهرمي الذي أسس له الفقيه النمساوي هانس كلسن، في ترتيبه للقواعد القانونية المتنوعة.
ويمثل الدستور في بعض التعريفات اللغوية، الدفتر الذي يدون فيه أسماء الجنود كما يعتبر أيضا في تعريفات لغوية أخرى القاعدةـ أما اصطلاحا، وحسب احدى التعريفات الفقهية، يمثل الدستور “القانون الأساسي للدولة الذي يشتمل على مجموع القواعد الأساسية التي تبين نظام الحكم وتنظيم السلطات العامة وارتباطها ببعضها البعض واختصاص كل منها وتقرير ما للأفراد من حريات عامة وحقوق قبل الدولة”.
ومن حيث الشكل، قد يكون الدستور عبارة عن وثيقة أو عدة وثائق رسمية مكتوبة، يتم اعتماده والمصادقة عليه باعتماد طريقتين تقليديتين، تتمثل الأولى في قيام سلطة مختصة بصياغته وتدوينه، كما هو الشأن بالنسبة لدستور 1959 ودستور 2014 الذين تم إنشاؤهما من طرف سلطتين تشريعيتين، المجلس القومي التأسيس والمجلس الوطني التأسيسي. أو باعتماد تقنية أخرى مغايرة تعرف بآلية الاستفتاء الشعبي على أن تقوم لجنة نيابية أو حكومية بصياغة دستور وعرضه على الشعب لتقرير مآله.
كما يمكن اعتماد الدساتير غير المكتوبة، وعادة ما يجمع جملة من القواعد العرفية ذات الطابع الإلزامي يعرف بالدستور العرفي ويعد دستور بريطانيا العظمى أبرز مثال على هذا النوع من الدساتير.
لقد أكد الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر في القرن الثامن عشر على أهمية وجود الدستور في المجتمعات الحرة والديمقراطية فهو بمثابة الضامن لاحترام مبادئ حقوق الإنسان والمراقب لتطبيق مبدأ الفصل بين السلط لتحقيق التوازن والاستقرار في أي مجتمع وخاصة المجتمع الفرنسي آنذاك، إذ جاء في فصله السادس عشر “أن كل مجتمع لا تكون فيه ضمانات للحقوق ولا يكون فيه الفصل بين السلطات، فإنه مجتمع بدون دستور“.
هذا وقد شهد التاريخ الوسيط على صدور صنف من الدساتير وضعتها أنظمة غير ديمقراطية كالأنظمة الملكية والتي تعتمد أسلوب المنحة في وضعه، حيث يقوم الملك أو الحاكم بوضع الدستور حسب اختياراته الشخصية ومصالحه الضيقة ويتم فرضه على الشعب دون مراعاة لحقوقهم، ولكنها دستور اندثرت مع الزمن.
لكن بقيت الأنظمة غير الديمقراطية تعمل على وضع دساتير تحمل نفس الأهداف القمعية، بتقنيات مغايرة حيث يقومون بوضع دساتير تحتوي على ضمانات لكل الحريات العامة وآليات للفصل بين السلط الثلاث، بينما تعمل من خلال هذا الدستور الصوري حقيقة على بناء مؤسسات قمعية تضر بالشعب وبحرياته عبر عدم احترامها لأي من تلك النصوص الواردة في الدستور.
ولقد شهد التاريخ على انطلاقة هذا النوع من الدساتير منذ فترات الاحتلال كانت رهينة الضغوط التي تصدر عن المحتل فتحمل في طياته نصوصا تقوم على حماية مصالح المستعمر والعمل على تدعيم نفوذه السياسي والعسكري والاقتصادي باعتباره الحاكم الفعلي لتلك الفترة.
هذا ما حصل في بلاد الشام في مرحلة الانتداب، حيث عمد المحتل إلى تقسيم البلاد سنة 1920، فحققت الفصائل السورية المناضلة آنذاك جملة من الإنجازات تجسدت في الثورة السورية الكبرى التي كانت الدافع الحقيقي نحو وضع أول دستور لسوريا سنة 1930 وضعته الجمعية التأسيسية المنتخبة من الشعب السوري آنذاك والذي مهد لقيام الجمهورية السورية الأولى في نفس تلك الفترة.
لم يكن الدستور منذ صدوره مجرد وثيقة بل هو بمثابة شاهد على مرحلة تاريخية لشعب ما، من خلال تدوينه للنظام السياسي المعتمد، الهوية، اللغة، اختياراتها السياسية والاقتصادية وحتى الحرياتية، وتكمن أهميته أيضا في تلك الرمزية التي تبرز خصوصية الشعب الذي ينتمي إليه، كيف لا وهو صك ملكية وسيادة الشعوب.
وها نحن اليوم نشهد مفاجأة من العيار الثقيل، دستور لسوريا من صنع روسي-إيران !!!
تفاجأ العالم العربي بما أعلنته وسائل الإعلام العالمية حول تقديم روسيا لمشروع دستور جديد لسوريا يتضمن جملة من النقاط المستحدثة والتي تحمل في طياتها مشروع احتلال جديد لسوريا.
لقد أكدت جريدة روسيا اليوم الناطقة باللغة العربية احتواء مسودة الدستور على مجموعة تعديلات تتمثل أهمها فيما ورد علينا في الفقرة الأولى من فصله الأول حيث جاء فيه التالي: “تكون الجمهورية السورية دولة مستقلة ذات سيادة وديموقراطية تعتمد على أولوية القانون ومساواة الجميع أمام القانون والتضامن الاجتماعي واحترام الحقوق والحريات ومساواة الحقوق والحريات لكافة المواطنين، دون أي فرق وامتياز“.
من الملاحظ غياب مصطلح “العربية” في النص الجديد والتي كانت موجودة في دستور 2012، الذي قد ورد في فصله الأول أن “الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية ذات سيادة تامة…” وأن سوريا تمثل “جزء من الوطن العربي”. ولم يقتصر فقط على التأكيد على البعد ألانتمائي للتراب السوري كدولة ذات سيادة على أراضيها، فإنه أكد أيضا على أن الشعب السوري يمثل “جزءا من الأمة العربية”.
واستنجد المشرع الروسي مشكورا بفصل يعلق فيه الآمال على أهمية التنوع الطائفي في سوريا عبر وضع بند ثالث يتعرض للتنوع الطائفي الذي يعرفه الشعب السوري ومحاولة وضع دستور يتماشى مع هذا التنوع باعتباره الضامن الوحيد لاستقرارها، وكأن اندلاع المعارك في الأرض السورية كان نتيجة الهوية العربية لسوريا، وهي مجرد تعلات واهية اعتمدت لتبرير عملية تغييب الهوية العربية في نص مشروع التعديل الدستور.
وتتواصل مظاهر الإجرام في حق سيادة سوريا، من خلال وضع إضافات تقوم مقام التمويه على الأهداف الحقيقية للمحتل الجديد، فعمد المشرع الروسي المبجل إلى التنصيص على ضرورة إرساء آليات الانتخاب الديمقراطي في اختيار رئيس الجمهورية وضمان عدم إعادة ترشيحه مرة أخرى إذا ما استوفى المدة الرئاسية المحددة بسبعة سنوات تامة المدة، في إشارة إلى مدى التعاون الإيجابي لبشار في شخص قائد متفهم وقادر على إيجاد الحل الأنسب لاستقرار سوريا.
لم تتوقف خطورة هذه السابقة عند هذا الحد بل أضاف المشرع الروسي مشكورا فصلا يتعلق بإجبارية تقيد النظام السوري بجل التعهدات والاتفاقيات الدولية التي تكون فيها الدولة طرفا، وهو ما يصر عليه حلفاء بشار في الفقرة السابعة من نص المسودة حيث أكد في أحد فصوله على ضرورة أن “تكون مبادئ وأحكام القانون الدولي المعترف بها ومعاهدات سوريا الدولية جزءا لا يتجزأ من نظامها القانوني“، مع العلم أن الدستور السابق لسوريا لم يتضمن أية إشارة إلى إجبارية التقيد بالمعاهدات التي أبرمتها مهما كان نوعها أو أهميتها.
لم يكن النظام السوري الحالي قادرا على مواجهة الثورة التي اندلعت فكان تحالفه مع الشيطان هو الحل الوحيد للبقاء فوق عرش مهترئ ولم يعد من الممكن إخفاء مدى الضعف الذي يعيشه هذا الرئيس منتهي الصلاحية، ولم يبقى له سوى الاستسلام لإملاءات الأقوياء من حلفائه الذين بادروا إلى التصدي لأية محاولة لاقتلاعه مقابل تقديمه لسوريا على طبق من ذهب.
اعتبر هذا المشروع الحديث المقترح من روسيا ثمرة مؤامرة روسية إيرانية حيث اكتفى الروس حاليا بإلزام سوريا بالالتزام التام بكل التعهدات التي أبرمت مع دولتهم لضمان حسن سير مصالحها في المنطقة كما هو معتمد منذ سبعينيات القرن العشرين، بينما يتراءى المد الإيراني الشيعي من ذلك الفصل الأول المتعلق بحذف كلمة عربية من دستور سوريا وهو امتثال لمطامع إيران في بسط نفوذها كدولة شيعية تبحث عن المد العقائدي في الشرق الأوسط من ناحية، والذي سيتدعم من ناحية أخرى عبر محاولاتها المكشوفة فرض وجودها العسكري واللوجستي أيضا كمنتج للأسلحة الثقيلة في العالم، ولم تكن سوريا سوى استعراض عسكري لقدرات الدب الروسي والأخطبوط الإيراني في ميادين المعارك لا غير.
يبقى الشعب السوري في كل هذا مغيبا تماما عن أهم محطة يتم فيها تحديد مصيره وهي مرحلة وضع دستور سوري حر وشعبي يتم وضعه من أبناء شعبه الذين يحملون هويته وخصوصيته ويضمنون سيادته على أراضيه، ليتم تشريده وقتله وترويعه، وكل الأمل في ثورة حقيقية منصفة لهذا الوطن ومالكيه الأصليين.