نام في بطنها ستّ سنوات…
عبد اللطيف علوي
عندما وضعت “دادَهْ” مولودها الأخير، كان عمرها قد أناف على الخمسين…
منذ الأشهر الأخيرة للحمل، عندما برزت بطنها، انسحبت من المجال العامّ، وبقيت أشهرا بعد الولادة لا تغادر البيت، وهي تشعر بنوع من الفضيحة تكاد تقترب من الخطيئة…
طبعا لا علاقة للأمر بما قد يتبادر إلى أذهانكم، فالابن شرعيّ حلال محلّل، وجدّي كان لا يزال على قيد الحياة، وقد أنجبت منه قبل ذلك تسعة بطون…
كان إحساسها بالحرج متأتّيا من كونها ولدت في نفس السنة التي ولدت فيها كنّتها، وابنتها الكبرى… ممّا جعلها تشعر بالحرج، وتلوم نفسها على “فذلكتها الماسطة” الّتي أدّت بها إلى الحمل في غير وقته… وفي عرف القرية، من المعيب أن تحبل االعمّة والكنّة في نفس الفترة…
السّبب الثّاني، وهو الأعمق، أنّ الكبار في أريافنا القديمة، كانوا ما أن يبلغ أبناؤهم سنّ الرّشد، ويفهموا ما بين المرأة والرّجل، حتّى يخفّضوا مستوى العلاقة بينهما إلى أدنى حدّ ممكن، فيكفّان عن النّوم في نفس الفراش، أو الجلوس في خلوة، أو التّمازح، أو أيّ نوع من التّصرّفات الّتي قد تذهب بالعقول بعيدا… حتّى المناداة، فإنّ الجدّة لا تنادي الجدّ باسمه، بل تعوّضها بعبارة “يا راجل”… وتصبح الرّسائل بينهما قليلة جدّا ومشفّرة ومحسوبة ومقتصرة على ما هو معيشيّ يوميّ…
الحقيقة أنّ العائلات القديمة، كانت تحاول بمثل ذلك السلوك أن تتأقلم مع وضع معقّد، فالسّكن في نفس البيت / الغرفة يعقّد الأمور (أحيانا تجد ثلاثة أجيال في نفس الغرفة).
تصبح العلاقات الحميمة مغامرة موسميّة كبرى محفوفة بالمخاطر، فتقلّ المناورات بالذّخيرة الحيّة، وقد يكتفي البعض ببعض العمليّات البيضاء، ويصبح الكبار يتحيّلون بما يستطيعون، كأن يرسلوا الأبناء في زيارات غير مبرّرة بالمرّة إلى أحد الأقارب، أو يأتي فرج الله على غير ما كانوا يحتسبون…
السّبب الثّالث أنّ داده كانت قد انقطعت عن الإنجاب منذ سبع سنوات، وهو ما يعني في مخيال المحيطين بها، أنّها هي وجدّي، دخلا في مرحلة وقف إطلاق النّار، لكنّ ذلك الحمل المتأخّر والمفاجئ وضعها في مأزق كبير، إذ كيف ستبرّر أمام الجميع، وخاصّة إخوتها الصّقور، أنّها لم تكفّ عن الشّغب، حتّى وهي في ذلك السّنّ؟ سيشعر الجميع أنّها كانت تخدعهم بذلك المظهر المتحفّظ…
وللتّخلّص من ذلك الحرج الرّهيب، قادها خيالها العبقريّ إلى تبرير عجيب، قالت إنّ ذلك الجنين قد نام في بطنها ستّ سنوات، هكذا أخبرها الطّبيب “بن زايد”، ولم يكن في المنطقة كلّها طبيب نساء (ما تسمّيه نساء القرية: طبيب حزامات)، لكنّ بن زايد في عرف الكثيرين وقتها نصف إله، يبرئ الأكمه والأبرص ويكاد يحيي الموتى، فكيف يكذب أو يخطئ في هذه ؟… إذن فالأمر صحيح… الجنين يمكن أن “تروح عليه نومة ويتعدّى في الطّويل” ثمّ يستيقظ بعد سنوات… فماذا سنفعل له؟ طبعا هو لا يمكن أن يفكّر في النّزول وهو نائم، وهو في صندوقه الأسود صنيعة الأقدار وحدها، تنيمه وتوقظه حسب مشيئة الله، فهل سنعترض على مشيئة الله؟…
الغريب أنّ “دادهْ” كانت أوّل من صدّق الحكاية، وصارت حين ترويها لا يمكن لكلّ أجهزة كشف الكذب في العالم أن تشكّ فيها مجرّد الشّك، نسوة القرية أيضا صدّقنها، إمّا حبّا فيها وتلطّفا بها، أو لأنّ الحجّة أعجبتهنّ وقد يحتجن إليها يوما، حتّى أنّ أمّي إلى اليوم، عندما نتذكّر الأمر تبدو مقتنعة تماما بتلك الرّواية، وتدافع عنها دفاعا مستميتا…
رحم الله “دادهْ” الغالية…
عشت في عالمين بينهما برزخ لا يبغيان،
عالم “زهرة بنت لخضر”، الّتي جعلها الحياء تخفض عينيها وهي الشّريفة الطّاهرة العفيفة، وعالم الأمّهات العازبات اللّواتي يجاهرن بالفحش ويكشفن الرّقعة على الهواء وأعينهنّ “تندبّ فيها رصاصة”…