تونس الحضارة، تونس التسامح، تونس الحرية
ليلى الهيشري
من هي تونس؟ تونس في نظر أبناء شعبها أرض الجمال والاخضرار والشمس الدافئة والبحر الأزرق الذي يأسر القلب، تونس هي في الحقيقة دولة لها تاريخ ولقراراتها السياسية وقع كبير على دول الجوار، يطلب ودها القائد الأعظم والملك المتوج والشيخ الجليل والإمبراطور الغازي وحتى الحالم المتجول بحثا عن الإلهام.
تونس تلك الأرض الصغيرة المتواجدة في أقصى شمال القارة السمراء، دولة أضحت في الألفية الثالثة محط إعجاب المجتمع الدولي، دولة فاحت رائحة ياسمينها إلى مختلف بقاع العالم، دولة حققت ما عجزت عنه دول كبرى.
لقد ظهرت تونس حسب علماء التاريخ، مع وجود الحضارة القبصية، من خلال ما تم اكتشافه من رسومات تعود لتاريخ بداية التجمعات السكانية في المنطقة، إلا أنها عرفت مرحلة تاريخية هامة تزامنت مع بناء مدينة قرطاج سنة 814 ق.م على يد الفينيقيين حيث عرفت المدينة لفترة طويلة مرحلة الازدهار التجاري، ولم يكتف الفينيقيون ببناء مرفأ المدينة فقط بل قاموا ببناء مرافئ أخرى لمزيد استغلال الموقع الاستراتيجي لتونس التي تميزت بإطلالة رملية وصخرية لسواحلها على البحر الأبيض المتوسط فاعتمدت نظاما تجاريا بحريا يقوم على التبادل التجاري للبضائع وسعت إلى تأمين هذه التجارة عبر توفير الدعم العسكري لتلك الموانئ.
لقد كانت قرطاج ملجأ التجار الفينيقيين الذين اتخذوا من موانئها بديلا للموانئ الفينيقية، مما سهل بناء مركز ملاحة بحرية ساهم في إشعاع المدينة. ولقد استطاعت قرطاج من خلال أسطولها البحري التجاري بسط سيطرتها على حركة التجارة في البحر الأبيض المتوسط، وكان سببا في إعلان إمبراطور روما الحرب على المدينة، فعمد إلى احتلالها وتدميرها ليشيد مكانها مقاطعة أفريكا سنة 146 ق.م.
لم تكن مساعي أباطرة الحروب وقادة الجيوش في تلك الفترة، في السيطرة على أرض تونس، من باب الحروب التوسعية الاعتباطية بل العكس، لقد مثلت تلك الدولة رغم صغر مساحتها، نقطة ارتكاز هامة في المخططات التوسعية للقادة والأساطيل البحرية فتونس بالنسبة إليهم هي الأرض – الرمز.
أما الفتوحات الإسلامية فقد كان لها الفضل في خلق تاريخ جديد لتونس، بدأ مع بدايات الفتح الإسلامي على يد جيش المسلمين في زمن الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، فكان للفتوحات الإسلامية الفضل في ولادة القيروان، تلك المدينة التي اتخذها القائد عقبة ابن نافع قاعدة عسكرية لتثبيت الفتح الإسلامي، وجعلها نقطة ارتكاز لانطلاق بقية الحملات الأخرى نحو المغربين الأوسط والأقصى فشرع سنة 51 هجري في بناء المدينة الإسلامية الأولى في إفريقية، بنى فيها دار الإمارة ومساكن للمسلمين القادمين من المشرق والمدينة المنورة وغيرها من أقطار المسلمين، وتشيد أهم وأول معلم تاريخي إسلامي في شمال إفريقيا، وهو جامع عقبة بن نافع.
عاشت المنطقة بعد ذلك مرحلة مضطربة تواصلت إلى سنة 74 هجري، عندما قرار عبد الملك بن مروان تكليف القائد الشامي حسان بن النعمان بمهمة استرجاع إفريقية نهائيا، فاستهل حروبه بمدينة قرطاج لما لها من أهمية استراتيجية في خطته الحربية، وإثر فتح المدينة قرر القائد حسان بن النعمان اصطحاب سكان قرطاج إلى القيروان ليستقروا فيها ودمر المدينة القديمة حتى لا يفكر الروم في العودة إليها، وكانت نهاية قرطاج بداية لتاريخ إسلامي جديد ومستقر ولد مع بناء مدينة جديدة سميت بتونس وكان ذلك بين سنة 82 و85 هجري.
لقد كان تاريخ تونس شاهدا على ما قدمته من سند قوي للفتوحات الإسلامية في شمال إفريقيا، لا كقاعدة عسكرية فقط بل كمنارة علمية أيضا. فقد ساهمت بمؤسساتها في التعريف بالإسلام وتعاليمه عبر نشر الثقافة العربية الإسلامية في المغرب من خلال بعث جامعة الزيتونة، المتموقعة في رحاب جامع الزيتونة المعمور، ولقد تميزت هذه الجامعة بظهور رموز علمية أسسوا لمدرسة عالمية وعربية، نذكر منهم علي بن زياد وأسد بن الفرات ولا ننسى خاصة صاحب المدونة التي رتبت المذهب المالكي وقننته وهو العالم الجليل الإمام سحنون.
ولم ينفك إشعاع تونس يتزايد مع أبرز محطات التاريخ الحديث، فقد احتلت ذلك البلد الصغير مكانة استراتيجية كبرى في حركة الاستعمار الأوربي الذي نشأ عن موجة التنافس الاستعماري المتواجدة خلال القرن التاسع عشر، والتي أدت إلى احتلال فرنسا للجزائر وفرض حمايتها على تونس، فضلا عن إدارتها لميناء طنجة في المغرب في ظل الصراع القائم بينها وبين بريطانيا حول الملاحة في البحر الأبيض المتوسط الذي انتهى بعقد الاتفاق الودي بينهما سنة 1904م، والاتفاق على تقسيم القارة الإفريقية بين الدول الأوربية.
وكجمهورية عربية، تواصل تميزها كدولة مستقلة عملت على بناء كيان سياسي مستقل عن نظيراتها من الدول العربية، فلا ننسى أنها من أولى الدول التي حصلت على استقلالها وخرجت من براثن الحماية الفرنسية المستعمرة بدهاء سياسييها وتضامن شعبها ومقاومته الباسلة، ولا ننسى أيضا أنها من عمدت إلى التفكير في وحدة إفريقية وأسست منظمة الوحدة الإفريقية في فترة الستينات، كما استقبلت على أراضيها العديد من المنظمات العربية وأهمها منظمة التحرير الفلسطينية.
لقد كان لوجود الشعب الفلسطيني ومنظمته في فترة من الأثر الطيب على الشعب التونسي الذي استبشر خيرا بقدوم أخوته الفلسطينيين، كما تعهد بحسن ضيافتهم والعمل على حمايتهم من موجة الاغتيالات التي طالت قادة منظمة فتح في فترة السبعينات والثمانينات. وفي ظل استماتة الموقف التونسي في دعم الشعب الفلسطيني المتواجد على أراضيها بقادته وشعبه، نفذ الكيان الصهيوني الغادر عملية ميدانية كبرى عرفت في تونس بأحداث حمام الشط.
“عملية الساق الخشبية” هي التسمية الرمزية للغارة الجوية الصهيونية ضد مقر القيادة العامة لمنظمة التحرير الفلسطينية في تونس التي نفذت عبر طائرة عسكرية إسرائيلية، تم فيها الاعتداء على مقر القيادة الكائن في منطقة حمام الشط بتاريخ 01/10/1985 وراح ضحيتها العديد من الشهداء في صفوف الفلسطينيين والتونسيين، ثم تلتها عملية اغتيال عرفت بالوحشية كانت بمثابة الصدمة في تونس وذلك بتاريخ 15 أفريل 1988 عندما اقتحمت قوة خاصة إسرائيلية مقر إقامة الشهيد أبو جهاد واغتالته أمام أعين أهله. ولم يثن ذلك الشعب التونسي عن مواصلة دعمه للقضية الفلسطينية، وكانت قصيدة درويش في وداع تونس أكبر شهادة على وفاء تلك البلد الصغيرة لأبناء “بوابة الجنة“، حيث عبر عن امتنان الشعب الفلسطيني لشعب تونس، فتساءل بمرارة المفارق المضطر قائلا: “كيف نشفى من حب تونس الذي يجري فينا مجرى النفس؟ لقد رأينا في تونس من الألفة والحنان والسند السمح ما لم نرى في أي مكان آخر”.
يطول الحديث إذا ما أردنا وصف تونس، وكل ما سبق ليس سوى عينة من تاريخها الطويل والزاخر بالأحداث والبطولات والمواقف المشرفة، هذه تونس المزدانة بالتنوع الغريب والتسامح الاجتماعي الجميل، الذي كان من أبرز العوامل التي ساهمت في قيامها بثورة استثنائية لأنها الدولة العربية الإسلامية الوحيدة التي قام شعبها بالنزول في شوارع حضنت كل الأطياف، فترى اليسار المتطرف واليمين المتطرف وقد ترى حسب رأي المحلل السياسي الدكتور علي اللاّفي. “يسار اليمين” و”يمين اليسار“، كما لا ننسى الطيف المعتدل وحتى الفئة غير المتحزبة، كلهم كانوا يدا واحدة ضد الطغيان ونجحوا متآزرين موحدين باختلافاتهم الإيديولوجية وانتماءاتهم الحزبية والعقائدية ربما في تحرير تونس مرة أخرى.
ولكني على يقين أن ممثلي كل تلك الأطياف وان بلغت اختلافاتها ما بلغت، فلهم من الحكمة والذكاء ما يجعلهم يتوحدون مرة أخرة من اجل خير تونس وسلامتها الأمنية واستقرارها السياسي، تلك هي آمال تونس في شعب التناقضات المتعايشة.