فصل المقال في أصوليّات المجال
زهير إسماعيل
كنّا انتبهنا، عقب انتصار تموز 2006، إلى أنّ حزب الله مقاومة وظيفيّة. وكانت الساحة العراقيّة، عشيّة تدمير بغداد واحتلال العراق ونزول بريمر بالساحة الخضراء ملكا على بلاد الرافدين، محكّا حقيقيّا لعلاقة الحزب بمنوال المقاومة.
لم يتردّد الحزب في ازدراء المقاومة العراقيّة التي انطلقت يوم سقوط بغداد (9 أفريل 2003)، وأثار حولها غبارا كثيفا، لينتهي إلى الاصطفاف خلف الشعار الخديعة “مقاومة الاحتلال من داخل مؤسسات الاحتلال”. وحين قاد محمد باقر الحكيم زعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلاميّة بالعراق مظاهرة في بغداد في مواجهة هذا الشعار كان مصيره الاغتيال.
ورغم ذلك، لم نكن نتوقّع أن تتغيّر وجهة البندقيّة بهذه السرعة من مارون الراس وبنت جبيل إلى يبرود والقصير… لتكون المشاركة، إلى جانب الحرس الثوري والروس، في قتل حوالي نصف مليون وتهجير أكثر من عشرة ملايين سوري.
حزب الله تعبير من تعبيرات “الخمينيّة” التي كانت تأويلا سياسيا للفقه الجعفري في شروط مذهبية مثلما كانت “الوهابيّة” تأويلا سياسيا للفقه الحنبلي في شروط بدويّة. وهما في ذلك مثل “الصهيونيّة” التي نشأت تأويلا سياسيا للتلمود في شروط استعماريّة.
الصهيونيّة والوهابيّة والخمينية أصوليات ثلاث نجحت بنسب متفاوتة في أن تغطّي على الأصل واجتهدت في أن تنوب عنه: الوهابيّة في علاقتها بالأصل السني والخمينيّة في علاقتها بالأصل الشيعي والصهيونيّة في علاقتها بالأصل اليهودي.
ومثلما غطّت الخمينيّة على “الإسلام السياسي الشيعي” (حزب الدعوة نموذجا) وراوحت بين محاربته وإخضاعه لاستراتيجيتها، غطّت الوهابيّة على “الإسلام السياسي السني” ( الإخوان المسلمين نموذجا) وراوحت بين محاربته وإخضاعه لاستراتيجيتها وساهمت في الانقلاب عليه ومحاربته حين وصل إلى السلطة في تونس ومصر.
استقرت الوهابيّة عند “ولاية الفقيه” والخمينيّة عند “ولاية الإمام” وكانتا إلى جانب الاستبداد بتلويناته المختلفة مانعا للإسلام السياسي (دون نسيان عوائقه الذاتيّة) في المجال العربي من أن يعْبُر إلى “ولاية الشعب” أو “ولاية الأمة”.
تحقق هذا العبور في المجال التركي المجاور ببلوغ مرحلة العدالة والتنمية باعتبارها أعلى مراحل الإسلام السياسي ونهايته المرتبطة بتأسيس الديمقراطيّة. وتمثّل ثورة الحريّة والكرامة في المجال العربي عاملا جديدا في تحقيق العبور بأفق مواطني اجتماعي. وهذا جوهر ما يعرفه هذا المجال من صراع.
ومثلما تشترك هذه الأصوليّات الثلاث في نزوعها إلى التغطية على الأصل تتّفق في طبيعتها الوظيفيّة هي وكل ما اشتقّ منها. وهو ما يفسّر إلى حدّ كبير قابليّتها للانخراط في محاور الصراع القديمة والطارئة ضمن استراتيجيات أكبر منها.
هذه الأصوليات حقيقةٌ يعرفها المجال العربي في قالب استيطان (الصهيونية) وفي صورة احتلال جديد (الخمينية) واستبداد مركّب (الوهابيّة)، ولا إمكان لمواجهة الخطاب الشريعي لثلاثتها إلا بـ”خطاب سياسي” يجمع بين التحرير والتنوير بسقف إنساني شاهق مداره على تخليص اليهود من الصهيونيّة والتشيع من الخمينيّة والتسنن من الوهابيّة. ويمثّل الإرهاب بأشكاله المختلفة خلاصة طبيعيّة لاشتباكها في المجال العربي التائق إلى الاجتماع قوّةً سياسيّةَ واقتصاديّةً شأنه شأن المجالين الجارين الإيراني والتركي.