الغنوشي بين مكر التاريخ ومكر الخصوم

بحري العرفاوي

لا أعتقد أن سياسيا من بين السياسيين التونسيين الحاليين يمر بمرحلة من الضغط والتضييق كما هو حال الأستاذ راشد الغنوشي باعتباره رئيس أكبر حزب سياسي وباعتباره الشخصية الأكثر فعلا وتأثيرا في المشهد التونسي والأقدر على تمرير “المشاريع” و”الوصفات” والأوسع علاقات داخليا وخارجيا.. ولا أعتقد أن أحدا يسره أن يتمزق بين رحابة الفكر الحر ولذة المعرفة وبين مؤامرات السياسة وصراعات المحاور.

تسارع الأحداث والوقائع تجعل الرجل ملزما على إبداء مواقفه باعتباره معنيا مباشرة بكل ما يحصل وما يطرأ وهو ما سيجعله يبدو في أحيان كثيرة كما لو أنه يتناقض مع نفسه حين لا ينزل متابعوه مواقفه وتصريحاته في مجالها الزمكاني.

سأتناول هنا تحديدا مواقف الرجل من الشباب المتدين ومن حادثة اغتيال الشهيد محمد الزواري.

حين كان نظام بن علي مستعينا بالنخبة الاستئصالية يحصد الشباب المتدين تحت عنوان مقاومة الإرهاب كان الغنوشي يقول من مهجره بأن هذا الشباب يمثل الصحوة الإسلامية الثانية ويقول عنهم “إنهم أبناؤنا الطبيعيون من حقهم علينا حسن التربية والتوجيه”.

بعد 14 جانفي 2011 وحين كان بعض الإعلاميين والسياسيين يتحدثون عن الإرهاب ويحرضون على الشباب المتدين كان الغنوشي يقول عنهم “أولادنا” ويجتهد في محاورتهم وإبعادهم عن مسالك التشدد والعنف.

“أولادنا” ليس نسبة إلى النهضة وإنما نسبة إلى الشعب التونسي وإلى البيئة التونسية فهؤلاء هم فعلا إنتاج بيئة سياسية ثقافية دينية اقتصادية تربوية إعلامية شاملة إنهم لم يأتوا من عوالم أخرى، وحدهم الآباء الجبناء يتبرؤون من أبنائهم إذا انحرفوا. الشجاعة الأخلاقية تقتضي تحملنا جميعا مسؤولية إنقاذ شبابنا الذي انحرف أو ربما الذي دفعناه إلى الانحراف بطرائق شتى.

أجواء “الثورة” وحماسة المرحلة جعلت عملية التواصل مع ذاك الشباب عسيرة جدا وربما تدخلت أطراف أخرى للإيقاع بين حركة النهضة والشباب المتحمس حتى اضطر وزير داخلية النهضة يومها إلى اعتبار تنظيم أنصار الشريعة تنظيما إرهابيا وسارع قادة النهضة بعد اغتيال الزعيم اليساري شكري بلعيد إلى الإصطفاف خلف عنوان “الحرب على الإرهاب” متبرئين من ذاك الشباب دفعة لتهمة تتربص بهم ويُعدها إليهم خصومهم بحرفية ومهارة عالية.

حين كانت أجهزة الأمن في عهد الترويكا تتصرف بحزم مع مظاهر تمرد الشباب المتدين كان عدد من الإعلاميين واليساريين يُبدون تعاطفا مع ذاك الشباب ويُدينون قساوة السلطة يومها لا عطفا على ذاك الشباب ولا انتصارا للحرية وإنما نكاية في النهضة والترويكا ونحن نتذكر مواقف الإدانة والتنديد حين توفي شابان سلفيان موقوفان أضربا عن الطعام حدّ الموت رحمهما الله.

خصوم الغنوشي لا يتعاملون معه كمنافس سياسي أو كشريك في مشروع وطني كبير وإنما يتعاملون معه كـ “عدو” وجب إخراجه من المشهد السياسي ولذلك فإنهم لا يكفون عن اتهامه وإدانته مهما كانت مواقفه وتصريحاته.

حين اضطره مكر التاريخ إلى التوافق مع النداء كفائز أول في انتخابات 2014 اتهموه بخذلان الثورة والاستسلام للدولة العميقة وهم من تحالف مع نداء تونس في اعتصام الرحيل وهم من استقوى بهم الباجي لإخراج النهضة وشريكيها من الحكم.

خصوم الأستاذ راشد الغنوشي يستجمعون كل تصريحاته التي توحي بكونه ينهج نهجا عنيفا ضد خصومه يريدون إقامة الدليل على كونه ليس رجل حوار وتوافق رغم أن التحريض ضد الاستبداد هو سلوك ثوري بنظر كل المعارضين للأنظمة الفاسدة الظالمة ورغم أن خصومه قد حرضوا عليه وعلى حزبه أيام حكم الترويكا تحريضا “ثوريا”.

في القضية الفلسطينية لا أحد يستطيع المزايدة على الإسلاميين في دعم المقاومة ضد الكيان الصهيوني وأنصار الحركة يرددون مقولة زعيمهم “القدس أية من القرآن الكريم من فرط فيها فقد فرط في القرآن كله”، والمتأمل في الأنشطة الثقافية للإسلاميين منذ الثمانينات يلحظ أن أغلب التظاهرات كانت تُقام لأجل فلسطين، وإرث الإسلاميين في الشعر والأغاني والمقالات مشرف جدا لا ينافسهم فيه خصومهم.

أسعدنا كثيرا توحد التونسيين في إدانة جريمة اغتيال المقاوم البطل محمد الزواري وفي تجاوز كل صفة إيديولوجية للرجل من أجل الإعلاء من شأن هويته المقاومة.

لسنا نتهم أحدا بالمزايدة في القضية ولكننا في نفس الوقت لا يمكن أن تنطلي علينا حيل بعض السياسيين حين يريدون محاصرة النهضة وإجبارها على إعطاء موقف محدد من الشهيد.

لا يخفى ما عانته النهضة من حرج وهي تقلب المواقف وترجح البيانات بما لا يضعها في مرمى المتربصين بها.

لو قال الغنوشي إن الشهيد هو شهيد الحركة فلن يتردد خصومه في اتهامه بكونه صاحب خطاب مزدوج وبكونه يتظاهر بالمدنية ويُخفي حقيقته “العسكرية” ولن يترددوا في اتهامه بكونه يُعد جناحا عسكريا لوقت الحاجة بل لن يتعففوا عن توريطه مع الأمريكان وأوروبا ليجعلوا منه وجها آخر من وجوه بن لادن أو المقاوم عزالدين القسام وهم يعلمون بأن أمن الكيان الصهيوني هو هاجس أمريكا وأوربا.

حين عبر الغنوشي في اجتماع بالقيروان عن كون الشهيد الزواري ليس من النهضة إنما كان يعبر عن حقيقة تنظيمية فالرجل لا يمكن أن يكون عنصرا فاعلا في مقاومة معقدة التنظيم والحركة وفي نفس الوقت عضوا مدنيا في حركة سياسية مفتوحة… خصوم الغنوشي اعتبروا تصريحه ذاك تبرأ من الشهيد ومن خيار المقاومة ليستخلصوا ما يُسيئون به إلى مواقف الرجل من القضية الفلسطينية ولعلهم كانوا في قرارة أنفسهم يودون لو أنه قال إنه ابننا الذي نفخر به.

من قرأ للغنوشي حول فلسطين وحول الديمقراطية والمدنية والحرية والمرأة وغيرها من قضايا السياسة والمجتمع والحياة لا يمكن أن يجد ما يتهم به الرجل في ثوريته وفي وطنيته وفي سلميته ولكن حين ننظر في آدائه السياسي وجب علينا تأمل الواقع وقراءة التفاصيل واستقراء الخفايا.

الشجاع من يواجه الواقع بواقعية دون تأثر بما يقوله الحماسيون وما يعلق به الإندفاعيون، والحكيم من لا تستثيره انتقادات الماكرين فيُلقي بأتباعه في الهاوية دفعا لشبهة “العمالة” عن نفسه… الغنوشي شخصية سياسية تونسية في بلد لم يحقق بعد اكتفاءه الذاتي في الغذاء والدواء وهو ليس قائدا عسكريا ولا رئيس دولة عظمى.

لسنا نبرر مواقف الرجل وإنما نفسر ونحن نعلم جيدا المسافة العملية بين رحابة التنظير وأوحال التدبير ونعلم أيضا أن كثيرا من خصومه لا يهاجمونه بمبدئية وإنما بانتهازية وهم يعلمون أنه يجوز لمن هو خارج السلطة ما لا يجوز لمن هو في السلطة وهم يعلمون أيضا بأن السياسة لم تعد إنتاجا محليا إنما هي تمازج بين المحلي والإقليمي والدولي.

على الإعلاميين والمثقفين أن يشتغلوا على الأهداف الكبرى وأن يشتغلوا بإنتاج ثقافة المقاومة وفكر التحرر وأن يستثيروا إرادة الحياة والتمرد لدى المواطنين وأن يكشفوا عن المؤامرات التي تحاك ضد مجتمعنا وأمتنا.

إذا كانت السياسة هي فن التعامل مع الممكن فإن الإبداع هو فن الدفع نحو المستحيل… وإن المثقف الذي يحلق في عالم الكمالات وسبحات الوجود لا يغفل عما يعانيه السياسيون من عذابات التمزق بين الأشواق والغُصص.

Exit mobile version