هل أعلن العالم رسميا تونس أرض جهاد للعائدين من حلب ؟
ليلى الهيشري
“800 جهادي عادوا إلى تونس بعد انتهاء الحرب في سوريا”
هذا هو العنوان الذي تصدر جل المقالات المكتوبة والالكترونية، وكان محور النقاشات في العديد من البرامج التلفزية والإذاعية الوطنية طيلة هذه الفترة. ومن المثير للغرابة أن هذا الرقم يعد بسيطا مقارنة بالعدد الجملي للتونسيين الذين توجوا لسوريا مدة 5 سنوات بتعلة الجهاد ضد الطاغية بشار الأسد، فلماذا كان سببا في بث الرعب في نفوس المواطنين التونسيين؟
800 هو رقم تم تسويقه في الإعلام التونسي، نعم تسويقه لغاية في نفس يعقوب، وهناك من المبررات ما يكفي لإثبات سوء النية في الإعلان عنه، كيف ذلك؟
إن البحث عن المصدر الذي قام بجمع هذه المعلومات ونشرها، هو مربط الفرس في هذه الأحداث المتعاقبة بنسق متسارع، أم على المستوى الإقليمي، تجدر الإشارة إلى أن حلب، أخر معاقل المجاهدين لازالت إلى الأن في فترة حرجة لم تستعد فيها مؤسساتها المخابراتية نشاطها، لذلك لا يمكن الجزم بأنها هي التي مدت الإعلام التونسي بهذا الرقم خاصة وأنها تعد المصدر الوحيد الذي قد يتمتع بنسبة عالية من المصداقية باعتبارها الأقرب إلى موقع نشاط هؤلاء الإرهابيين. أما تركيا، وهي الدولة التي عملت على تسهيل دخولهم إلى الأراضي السورية، فهي الآن تقوم على تشجيع العائدين منها على ترك التراب التركي خوفا من بقائهم على أراضيها محملين بذلك السخط والإجرام والدموية، فلا أرى منطقا في قيامها لمساعدة الأجهزة التونسية في التفطن إليهم.
أما على المستوى الوطني، لا يمكن توجيه الاتهامات جزافا إلى الأجهزة الأمنية التونسية والقول بأنها المصدر الذي روج لتلك المعلومة حتى تتمكن من اكتساب المزيد من الصلاحيات الميدانية، فلا ضرورة إلى وضع مؤسساتنا الأمنية مرة أخرى في مرمى الشكوك واللامهنية خاصة، وحتى إن صدر ذلك من بعض الإدارات الغير مسؤولة من وزارة الداخلية، كان حريا بهم السعي نحو التعرف عن هويات الـ 800 عائد ليمنعوا دخولهم تراب الدولة أو على الأقل رصد تحركاتهم في التراب التونسي بأية طريقة كانت عوضا عن التبجح بإعلان هذا الرقم، علما وانها وزارة للداخلية وليست معهدا للإحصاء.
لقد أثار رقم الـ 800 “مجاهد” صدمة كبيرة في أنحاء البلاد التونسية، حيث تمكن من الوصول إلى مسامع الـ 12 مليون تونسي في فترة قياسية، ليكون الشغل الشاغل للمواطن التونسي ليحيي فينا ماض لم ينس إلى اليوم، ذلك الماضي الذي يعود لسنة 2013 وهي السنة الأكثر دموية في تونس، أو فلنقل سنة الاغتيالات بامتياز. ففي تلك السنة ودعنا فيها الشهيد شكري بلعيد ذلك المحامي المجتهد الذي عرف بصراحته، بقوته وشجاعته في الدفاع عن أفكاره، فكان صوته كفيلا بإخافة عدوه وإرباكه، فتم اغتياله أمام أعين عائلته، ولم يكتف القتلة بذلك، فقد جاء دور الشهيد محمد البراهمي، أحد ألمع السياسيين التونسيين، إبن الجنوب الذي اغتاله المتآمرون على أمن البلاد أمام أعين جيرانه وأسرته، لإسكاته عن قول الحقيقة التي كان يصدح بها في حرم المجلس التأسيسي وكان يستميت في الدفاع عن مبادئه الحرة والمستقلة أمام ما شهدته تلك الفترة من محاولات لتمرير مشاريع قانون لا تؤمن بالدولة المدنية.
إلى أن جاء ذلك اليوم الأسود الذي أعلن فيه عن مقتل خيرة جنودنا في جبل الشعانبي، وياليتها كانت نهاية لجندي في ملحمة حرب شريفة، إذ امتدت لهم يد الغدر من طرف شرذمة من القتلة باغتوهم كما تباغت الضباع فريستها واستغلوا جروحهم لينكلوا بهم ويجعلوا من رؤوسهم جوائز للذكرى، لا أذكر سوى تلك الهبة الشعبية التي اكتسحت الشوارع التونسية في صيف 2013 كرد على رفضنا للدم والذبح والتنكيل. وجاء الرد واضحا وشعبيا، الرفض التام للحروب والمؤامرات والإسلام السياسي والنماذج المجتمعية المشوهة.
فكل المؤشرات إذن تؤكد أن عودة هؤلاء المحاربين المدربين على تدمير البلدان وتشريد العائلات ليس عملا داخليا أو حتى عربيا، بل هو مخطط دولي بامتياز، ولكم أن تسترجعوا أحداث الاعتداء على سوق الميلاد ببرلين كدليل على ذلك المخطط. هل كان اختيار منفذ العملية مجرد صدفة، هل كان التركيز على جنسيته التونسية أيضا صدفة !!، لم يعد هناك مجال للشك أن إثبات هوية المنفذ عمل مدبر ومتعمد للتحضير لمرحلة قادمة ستكون فيها تونس محور التجاذبات السياسية والعسكرية في المنطقة.
نعم سيداتي وسادتي، أصبح الإرهابي المحترف المدرب يتجول في شوارع أوروبا ببطاقة هوية، وهو ما يثير في نفسي السخرية من كل تلك الطاقات والموارد والتجهيزات التي سخرت لهم لجعلهم قتلة احترفوا صنع الأسلحة والقتال والاختفاء عن أنظار أجهزة العالم الأمنية ولكنهم عجزوا عن إخفاء هوياتهم بل فلنقل إن غباءهم وصل لدرجة يقومون فيها بحمل بطاقات هويتهم الأصلية عند القيام بعملية إرهابية وهو أمر لا يستقيم وشخصية الإرهابي المدرب والمحترف. فلم يعد هناك شك في أن عملية العامري ليست سوى عملية ارتجالية، قامت بها أجهزة بعض الدول لتوجه الأنظار نحو الجنسية التونسية لأنها بوابة لمرحلة لاحقة.
إن الشعب التونسي الذي خلق ثورة غير بها خارطة القوى العالمية التقليدية على مدى قرون، كان أكثر الشعوب التي صدرت أكبر عدد من المجاهدين إلى سوريا، وأمام فشل المخطط الاستعماري الذي استهدف الدول الكبرى في الشرق الأوسط وأهمها تدمير سوريا وتقسيمها، تعد تونس الفرصة الذهبية لدخول شمال أفريقيا عبر بوابته التونسية.
لما لا؟ فلا يخفى علينا ما يعانيه الشعب الليبي من أزمة كبرى ناتجة عن الانقسامات والحروب الداخلية والصعوبات الاقتصادية، ويكفي أن تتأجج منطقة الجنوب التونسي لتمتد إلى جيراننا نيران الحرب من جديد وقد يحالف هؤلاء المتآمرون عبر العالم الحظ لتمتد الفتنة إلى الجزائر.
هاهم الآن يحاولون بكل جهودهم توحيد الرأي العام الدولي نحو اختيار عملية تركيز العائدين من حلب في تونس، ومنع كل السبل التي تؤدي إلى استقبالهم في الدول الأوروبية، ويبقى أبرز دليل على ذلك المخطط، عملية قتل أنيس العامري بعد سويعات من اكتشاف هويته، في ميلانو أي في دولة أخرى تختلف عن تلك التي نفذ فيها العملية وهو وقت قصير جدا لقيام إرهابي محنك بكشف نفسه بتلك الطريقة عبر السفر مباشرة بعد قيامه بالاعتداء من ألمانيا إلى إيطاليا والتجول في شوارها العمومية أمام أعين الأمن ليتمكنوا بتلك السهولة من القبض عليه وإردائه قتيلا بكل تلك السرعة المريبة.
إن بلادنا تعيش مرحلة دقيقة، فهي بحاجة إلى مؤسساتها الأمنية والعسكرية أكثر من مؤسساتها الإعلامية التي لن تزيد بترويج هذه الأرقام والمعلومات إلا خوفا في نفوس أبناء الشعب مما سيزيد من صعوبة قيام الأجهزة الأمنية بعملها، فأرجوا من هذه المؤسسات المختصة منع هذه المعلومات واتخاذ الإجراءات الكفيلة بالتعرف من جهة على العائدين من بؤر التوتر ومن جهة أخرى السعي نحو ترشيد المعلومات الأمنية المعلنة للرأي العام لتجنب الانفلاتات والثغرات التي قد يستغلها العدو في إضعاف مؤسسات الدولة وعرقلتها.