المجلس الأعلى للقضاء… وقف حمار القضاة في عتبة السياسة !
طارق العبيدي
المجلس الأعلى للقضاء هو صاحب السلطة القضائية وثالث ركن من أركان الدولة الى جانب السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، وهو مثلهما تماما سلطة سياسية بامتياز تجعله في قلب اهتمامات السياسيين ومن الطبيعي ان يبنى في الدول الديمقراطية على توافقات بين الفرقاء السياسيين. وكونه سلطة سياسية هذا لا يعني إطلاقا بان من يمارس القضاء كوظيفة له الحق في الانتماء السياسي الحزبي كما لا يعني بان السلطة التنفيذية او السلطة التشريعية لهما نفوذ داخله الى درجة الإخضاع. بل كل ما في الامر بان هذا المجلس الأعلى للقضاء مثله مثل البرلمان يتكون من أعضاء منتخبين لهم مشارب سياسية مختلفة وعليهم ان يجتمعوا مثل ما يقع في مجلس نواب الشعب ويتناقشون ويتوافقون على شؤونهم داخل مقر مبنى المجلس الأعلى للقضاء وتحت قبته وفي قاعاته ليعلنوا التوافقات فيما بينهم على كل شيء يهمهم دون تدخل الحكومة ولا رئيس الجمهورية ولا حتى مجلس نواب الشعب. هذه مسلمات يجب على جميع أعضاء المجلس الأعلى للقضاء الالتزام بها التزاما كاملا والا أهدرنا استحقاقا دستوريا ثمينا اسمه استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية وفتحنا الباب على مصراعيه امامهما للتدخل وحماية الدولة من أزمة تهدد انهيار مؤسساتها.
ولكن، لقائل ان يقول بان هذا التحليل البسيط لمفهوم المجلس الأعلى للقضاء كسلطة قضائية سياسية شبيهة شكلا بالسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية يفتح الباب على مصراعيه للقول بتدخل الأحزاب السياسية مباشرة في التوافقات السياسية لاعضائه !… هذا غير صحيح، لوجود خصوصية في هذا الشأن تتمثل في انتخابه من المهنيين فقط. وهو ما لا يسمح لأي حزب من الأحزاب ان يتدخل مباشرة فيه. اذا، المشارب السياسية لهذا المجلس الأعلى للقضاء غير متصلة مباشرة بالأحزاب وإنما متصلة اتصالا وثيقا بالمهن التي ساهمت في انتخابه وهي القضاء والمحاماة والخبراء المحاسبين وعدول التنفيذ والأساتذة الجامعيين مدرسي القانون. ومختلف هذه المهن التي تشكل منافذ السياسة الاولى والوحيدة التي يجب ان ينهل منها المجلس الأعلى للقضاء هي غربال مهني وتقني دقيق من المفترض ان لا ينفذ منه الى المجلس الأعلى للقضاء الا الحديث في شؤون القضاء كسلطة إشراف عن المحاكم وعن القضاة اللذين يشغلونها ومباديء عملهم وشروطهم واخلاقهم القضائية وعن ادارة المحاكم وتسييرها وعن علاقتها بجميع المهن التي تتعاطى معها وأهمها المحاماة والأساتذة الجامعيين مدرسي القانون والخبراء المحاسبين وعدول التنفيذ. تلك هي المشارب السياسية المباشرة للمجلس الأعلى للقضاء ودونها مكروها التعاطي مباشرة معه وليس محرما.
رغم هذا الوضوح النظري في مفهوم المجلس الأعلى للقضاء كسلطة ذات خصوصية منزلة في قلب السياسة، فان الخطاب الذي تقوده جمعية القضاة ذات المشارب السياسية غير المكروهة مثلها مثل غيرها من الجمعيات ونقابات القضاء العدلي والاداري والمالي كان خارج موضوع الحدث، حيث خاطبت العموم بان السياسة قذارة تهدد المجلس الأعلى للقضاء. وهو ما احدث إرتباكا وخوفا لديهم وفي بعض الأوساط القضائية من هذا المجلس الأعلى للقضاء بوصفه مولودا جديدا ينهل من عدة مشارب سياسية ما زال القضاة التونسيين غير متعودين عليها، الامر الذي صعب مهمة التعاطي معه ومهمة تسهيل الطريق نحو انعقاده.
بالمقابل، فان جمعية القضاة ذات المشارب السياسية المشهورة -وهي التي تعتبر السياسة قذارة حلت بالمجلس الأعلى للقضاء الوليد ستجعله خاضعا للسلطة التنفيذية- تطالب في نفس الوقت السلطة التنفيذية بالتدخل لسحب البساط من هذا المجلس الأعلى للقضاء وإصدار أوامر تسمية القضاة السامين قبل انعقاده!… أليس هذا انفصام في الشخصية اصاب جمعية القضاة من حيث لا يعلم أعضاؤها -والأرجح بعلمهم وإصرارهم- وسيرهم يستجيرون في مواجهة سلطتهم بالسلطة التنفيذية العدو التاريخي لهم… اعني بسلطتهم السلطة القضائية المستقلة الوليدة التي ناضلوا وضحوا من اجلها منذ الاستقلال الى الان!… هل يعقل ان يقبل عقل قضائى او سياسي سليم هذا التمشي؟
لا شك ان هذه الأفكار النظرية البسيطة التي اقدمها تظهر ساذجة امام المشاكل العملية التي ترهق منتسبي جمعية القضاة وغيرهم من القضاة والمحامين وربما الأساتذة الجامعين أنصارهم… ولكن الاشكاليات العملية للتيار السياسي لقضاة الجمعية اذا لم تحل داخل ضوابط نظرية المجلس الأعلى للقضاء كسلطة قضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية تصبح طعنا لها في الظهر.
الان بات واضحا بان هناك خلل جوهري في اُسلوب ادارة الخلاف من قبل الهيئة الوقتية للقضاء العدلي وظهيرها جمعية القضاة، حيث يطالبون السلطة التنفيذية بالتدخل في شان السلطة القضائية المستقلة الوليدة وسحب بساط مهمة تسمية القضاة السامون من تحت قدمها، حتى ينعقد المجلس الأعلى للقضاء بعنوان كبير اسمه الخضوع لرئيس ولقضاة سامون غير نابعين من رحم اول سلطة قضائية منتخبة ومستقلة عن السلطة التنفيذية. وهذا سيخلق شرخ الشعور بالهزيمة والخضوع داخل المجلس، وسيتم تصدير هذا الشعور الى القطاعات المهنية التي انتخبته وخاصة لدى المحامين اكبر قوة تطرح بجدية موضوع الإصلاح القضائي الهيكلي والبشري على الساحة السياسية الوطنية، وسيتولد عن ذلك بالضرورة سلطة قضائية غير منسجمة مع الشعور العام لمنتخبيها وفي صراع معه وهو ما سيصعب مهمة الإصلاح القضائي التي ينتظرها الجميع.
أيها القضاة منتسبي الجمعية عودوا بحماركم من عتبة السلطة التنفيذية وتوجهوا به الى عتبة المجلس الأعلى للقضاء. هناك فقط يمكن ان تطرحوا موضوع التسميات القضائية العليا دون تثريب عليكم حيث الضامن الفعلي لكل التوافقات المفترضة هو الهيئات المهنية للمنتخبين، التي عليها كلها ان تدلي بدلوها في اروقة وقاعات مبنى المجلس الأعلى للقضاء وتكون شاهدا على التوافقات العامة. هناك فقط وبمشاركة المنظمات المهنية لمنتخبي المجلس الأعلى للقضاء وبعيدا عن عتبة السلطة التنفيذية ولا حتى السلطة التشريعية تكون ادارة الخلاف حكيمة بكل ما لمعنى كلمة حكيمة من جمال لغوي وروحي. هنا فقط يستطيع كلنا الذي ساهم في انتخاب المجلس الأعلى للقضاء ان يوقف حمار السياسي في عتبة القضاء.
أيها القضاة عليكم ان تدركوا بان سلطة قضائية منتخبة لا تعمل بالتوافقات السياسية ستفشل فشلا ذريعا، كما عليكم ان تعلموا ايضا بان قضاة سامون يتم اقتراحهم من خارج رحم السلطة القضائية الوليدة سيكونون خنجر وأدها. وكل هذا سينعكس سلبا على القضاء برمته الذي سيخسر رضاء الشعب بعد خسران رضاء المهنيين الناخبين.
على الهيئات المهنية الحاضنة الفعلية لمنتخبي المجلس الأعلى للقضاء وخاصة منهم الهيئة الوطنية للمحامين ان تتحرك في هذا الاتجاه، وان لا تترك الاتجاه العبثي نحو الاستجارة بالسلطة التنفيذية لوأد السلطة القضائية المستقلة الوليدة التي ضحى من اجلها قضاة ومحامين عظام وكثر منذ الاستقلال الى الان. كيف ذلك؟ بتوجيه حل أزمة المجلس الأعلى للقضاء نحو الخروج بتوافق الفرقاء على تسميات الوظائف القضائية العليا من داخله وفي اليوم الاول لانعقاده صونا لسلطة قضائية مستقلة -دفع الشعب التونسي الغالي والنفيس من اجل ولادتها- من تدخل السلطة التنفيذية الذي تطالب به هيئة القضاء العدلي وظهيرها جمعية القضاة التونسيين.