النّهضة والشّهيد : إكراهات الحكم أم سلوك مدني
سامي براهم
تتنافس الحركات السياسيّة على الاستثمار في شرعيّة الدّماء والانتساب للرأسمال الرّمزي للشّهداء والشّهادة في سبيل القضايا العادلة وليس هناك أعدل من تحرير الأوطان، وليس هناك أعدل من القضيّة الفلسطينيّة التي تعتبر من أكثر القضايا التي تجمع التونسيين “إلا قلّة هجينة شاذّة مسلوخة عن انتمائها الوطني والقومي والإنساني”.
كان يفترض انطلاقا من هذا التشخيص أن يسابق حزب النّهضة للاحتفاء بالشّهيد النهضوي القسّامي، إن لم يكن للاستثمار السياسي فمن باب الوفاء لانتمائه السّابق لحزبها ونضاله في صفوفها، لكن ما حصل هو تصرّف حياديّ بارد خال من الشّحنة العاطفيّة لحزب مهما حاول تقديم نفسه في صورة الحزب المدني فهو ذو مرجعيّة إسلاميّة تحتفي مصادرها وأدبياتها بالشّهادة وتعلي من مقام الشّهداء ومن قيمتهم الاعتباريّة وتصنع لهم سرديّات ترتقي إلى العجائبيّة والخوارق،
ما الذي جعل النهضة تتصرّف بهذا الشّكل ؟ هل هي إكراهات السّلطة وحبّ البقاء في الحكم ولو على حساب قيم المرجعيّة التي يصدر عنها الحزب ومشاعر قواعده وإحساسهم بالغبن ؟ أم هو سلوك سياسي مدني حقيقي في التعامل مع حدث الاغتيال ؟
هو اختبار جديد صعب للنّهضة الحزب الذي يشهد تحوّلات في الوعي وشكل الانتظام السياسي منذ ما بعد الثّورة لذلك لا بدّ من تحليل خلفيات السلوك النهضوي إزاء هذا الحدث المربك.
إنّ إبراز الانتماء النهضوي للمستهدف بالاغتيال حتّى وإن كان قديما يضع النهضة في سؤال الازدواج التنظيمي “حزب سياسي مدني وفصيل عسكري” خاصّة وأنّ هذا الفصيل وإن كان مقاوما فليس محلّ إجماع داخل السّاحة السياسيّة التونسية، كما يمكن أن يضع النهضة في شبهة التنسيق السريّ مع فصيل عسكري “أجنبي” بالمنطق القانوني والسياسي الوطني ويثير من حولها الاتهامات بغياب المرجعيّة الوطنيّة لصالح المرجعيّة الشموليّة المافوق قطريّة، وهو ما يمكن أن يثير خصومها وحتّى حلفاءها بل يمكن أن يؤثّر على التّوافق البراجماتي الهشّ الذي يجمعها بحليف بنى شرعيته السياسية وفوزه الانتخابي على اتهامها بالأخونة وغياب المرجعيّة الوطنيّة.
من جهة أخرى حرصت النّهضة رغم استقبالها لقيادات المقاومة الفلسطينية وتنظيمها قافلة لغزّة ترأسها وزير خارجيتها زمن حكم الترويكا على تطمين دول لها علاقة عضوية استراتيجية بالكيان الصهيوني على رؤيتها المتوازنة لقضايا المنطقة والتزامها بالشرعية الدوليّة ومواثيقها وقراراتها بخصوص القضية الفلسطينيّة وهو سقف دون ما تربّى عليه أبناؤها في العلاقة بفلسطين في أدبيات مشبعة بالكثافات العاطفية والرمزيّة والمعاني الدينيّة،
كلّ هذه التحوّلات ربّما لم يواكبها بالشّكل الكافي قواعد النّهضة بل ربّما قيادتها الوسطى لذلك شكّلت صدمة وحالة من الغبن والغربة أمام شهيد عاشروه زمنا سواء في أرض الوطن أو المهجر قبل أن يختار الانفصال التنظيمي والعلائقي ليمحّض عقله وروحه وجهده للمعرفة والمقاومة، لسان حالهم يقول هذا ابننا وأخونا بينما إكراهات السياسة والتزام السّلوك المدني المتخفّف من عواطف السياسة الاحتجاجية التعبويّة تضعهم طوعا أو كرها في موقع الحياديّة.
بقطع النّظر عن تقييم موقف النهضة ووجاهته في مضمار السّلوك السياسي المدني والمصلحة الوطنيّة والحزبيّة فلقد غنم الشّهيد وغنمت تونس من هذا الموقف وارتقى الشهيد فوق الانتماءات الفئويّة الضيقة وأصبح محلّ إجماع وطني رسميّ وشعبي، ورمزا لتونس الفلسطينيّة تاريخا وروحا ووجدانا وعقلا.
وهذا من كرامة الشّهيد وعلامات صدق شهاداته.
فحيّوا شهيد الوطن فقد ارتقت به تونس وارتقى بها.