حلب الزواري والأسئلة المربكة
تتتابع الأحداث الكبرى في بلادنا، وفي محيطنا، بسرعة فائقة. العقل المنفعل، وللأسف تلك هي سمة عقلنا، يلهث وراءها في تفاصيلها، فيتعامل مع كل حدث على حدة، فترهقه المتابعة. ولا يقدر أن يحدث في الواقع أثرا.
بالتأكيد لسنا أمام لعبة عابثة. ولذلك على العقل أن يبحث عن الخيط الناظم، حتى لا نضيع البوصلة، ونتيه بين الأمم والشعوب.
إننا لسنا أمام ترتيبات تكتيكية بسيطة، في خارطة مستقرة، إننا في عالم يتشكل من جديد. إننا في خضم تلك اللحظة الفاجعة، لما اكتشف ابن خلدون أن عالما انتهى وآخر يتخلق: “وإذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة، وعالم محدث”. ابن خلدون نفسه اكتشف ذلك وهو يستشعر أن هذه النشأة المستأنفة ستكون على “حسابنا”، لأن شيئا ما كان بصدد التحرك في الشمال.
الرأي العام عندنا يمر من الانفعال بحدث إلى الانفعال بآخر. من مناقشة الميزانية، إلى الحكم في قضية تطاوين، إلى جلسات الاستماع العلنية لضحايا الاستبداد والفساد، إلى مستجدات الملف السوري والإبادة الجماعية في حلب، إلى اغتيال المهندس محمد الزواري في رابعة النهار وبتدبير خارجي، وبتنفيذ يرجح أن يكون بتواطؤ بين الداخل والخارج.
غير أن ما يلفت الانتباه حقاً هو طريقة تعامل النخبة. شيء ما يحصل في العمق.
أخطر ما يمكن أن يصاب به شعب أن يواجه أوضاعا جديدة بوعي غير مطابق، أن نجابه فصولا جديدة بأثواب بالية.
هناك فخاخ تهدد وعينا وسياستنا وحتى أحاسيسنا.
في خضم بنائنا الثوري في مساراته المختلفة نخشى أن نخسر في نفس الوقت في الأخلاق وفي السياسة أيضا.
يحب إن نعود للنقاشات الكبرى التي نراها ضمرت.
هل يمكن بناء دولة مستقلة في رقعة 164 ألف كلم مربع دون موارد كبرى؟
لا أحد يشكك في الدولة القطرية كحقيقة دستورية بل حتى نفسية. ولكن القطرية لا تمنع الأفاق الأوسع.
شعوب غيرنا، وربما قبلنا، أوجدت التوازن بين دوائر انتماء متكاملة.
عرف الفرنسي كيف يوازن بين “فرنسيته” و “أوروبيته”.
هو نفس امتحان الألماني والإيطالي وغيرهم.
الإنسان كائن ثقافي. والمجتمعات أيضا.
غير أننا في بلادنا، وربما في منطقتنا، نجد أنفسنا أمام عائلات فكرية كبرى تهرب من الأسئلة الكبرى، تتحايل على موازين القوى الغالبة بوهم ترويضها.
وهكذا نجد أنفسنا أمام شيوعيين أغلب قاعدتهم الانتخابية في الأحياء المرفهة، وأنام قوميين ضحوا بالديموقراطية من أجل الوحدة، فخسرناهما جميعا، وأصبحت دولة التجزئة المرذلة لعقود حلما أمام حقيقة التفتيت، وأمام إسلاميين حشروا في الزاوية ودمرتهم محاكم التفتيش، فأصبحوا لا هم لهم سوى محاولة الإقناع انهم مثل الآخرين، لا يهددون نمط الحياة ولا الموازين، فيكادون يفقدون اللون والطعم والرائحة.
سنة 1995 خاضت دول من جنوب المتوسط -المصطلح الجغرافي المستعمل للتخلص من الشحنة الثقافية والنفسية لكلمة العرب- مفاوضات لعقد اتفاقات شراكة مع الاتحاد الأوروبي.
واجهونا موحدين، وهذا حقهم وواجبهم في الدفاع عن مصالح شعوبهم، في حين واجهناهم، أو واجههم حكامنا، منفردين. ونعرف النتيجة.
الأفق الحضاري، أو البعد الوحدوي، حتى في صيغته الدنيا ضمر. نسينا شيئا اسمه اتحاد المغرب العربي من اجل خصومة تافهة. أما الجامعة العربية فلم تعد تقوم حتى بدورها الفولكلوري.
الأخطر أن هذه الأبعاد ضاعت في الوعي، وفي السياسات، بل حتى في الأحاسيس والانفعالات.
إبادة أهل حلب تمر بِنَا كـ “لا حدث”. لعل البعض يتصور انتصارا ممكنا لبشار يسمح له بمواصلة الحكم. وما درى انه سيكون مجرد مندوب سام عند الروس أو الفرس في رقعة جديدة. سوريا القديمة توشك أن تنتهي. وكذلك العراق القديم. هذه الدول أصبحت ثقيلة على جمالية خارطة يجب أن تكون واسعة في الشمال خفيفة في الجنوب.
وإن حكم سيحكم جبلا من الجماجم.
والبعض الآخر قال كما قال المرحوم جحا: “لا زالت المعركة بعيدة عن حينا”، ولما قيل له أن المعركة في منزلهم، قال قولته الشهيرة: “اخطا راسي واضرب”. لا يدري أحد هل نجا جحا، فهو لم يعد من موتته بعد، ولكن كثيرين يتحدثون عن الثور الأبيض والثور الأسود.
بعض الدول العظمى تعتبر أن حدود أمنها القومي يقع على بعد آلاف الكيلومترات من حدودها الجغرافية، ونحن نغرق في بحر من التجزئة.
توشك حساباتنا أيضا أن تخسرنا معركة الأخلاق.
في تاريخنا الحديث وحدتنا قضيتان: المعركة ضد الاستبداد ومعركة تحرير فلسطين. وجزء من النخبة المؤثرة اليوم تربت في السجون وتربت على الأدبيات الفلسطينية، بل إن بعضها تربى في التنظيمات والمعسكرات الفلسطينية، التي كانت تجمع عشاق الحرية من اليابان إلى المكسيك والأرجنتين.
حسابات التطبيع مع الأوضاع يكاد يخسرنا نكهتنا. هل نستحي أن نكون فلسطينيين بمعنى ما. بالمعنى الإنساني أولا، وبمعنى العروبة، وبمعنى الإسلام.
الشهيد المهندس محمد الزواري لم يستشر أحدا في خياراته. مارس حريته. لم ننتبه إليه إلا لما استشهد. يجب أن نعتز أن تونسيا فكر في أفق أخر. لعله رفع عنا حرج الإحساس بالتقصير.
لعله يذكرنا بالشهيد ميلود نجاح، التونسي الذي استشهد ليلة الخامس والعشرين من نوفمبر 1987، في شمال فلسطين.
ولكننا يجب أن ننتبه، ونغادر الحسابات الصغيرة والبائسة، فدم الشهداء ليس فيه ازرق واسود. يجب أن نعتز وأن نفخر.
ويجب أن ننتبه أيضا.
فلقد تعرض ترابنا الوطني للانتهاك في أكثر من مناسبة، لما كانت الدولة غريبة عنا. أما الآن، بعد الثورة، فقد أصبح الوضع مختلفا، فالدولة دولتنا، هي منا، وتعبر عنا، ولن نسمح لأحد أن يعتدي علينا.
لا نستبعد أن تكون الترتيبات التي تحصل بخصوص الملف السوري هي التي وفرت المعلومات للقتلة. فالمقاومة استقرت دهرا في سوريا، والأجهزة السورية تملك، بلا شك، خزانا من المعلومات عنها، وهذا الخزان يمكن أن يكون ثمنا لمقايضات كثيرة.
في تونسنا، يجب على الأجهزة أن تقوم بدورها، وبسرعة، للإسراع بكشف الحقيقة، ومصارحة الشعب بها.
والمؤسسات يجب أن ترتب السياسات المتناسبة مع الحقائق.
والرأي العام يجب أن يتصالح مع قضايا الأمة. فالثورة ليست فقط حرية وكرامة، إنها أيضا ثقافة وأخلاق. والثوار لا يمكن إلا أن يصطفوا مع الحق والعدل حيثما كانا.
والسياسيون يجب أن يعيدوا طرح الأسئلة الكبرى، ووضع الأولويات الوطنية في سياقاتها الإقليمية والدولية.
إن أي ديموقراطية ستظل هشة، وأن أي تنمية ستظل مشوهة إن لم تكن ضمن أفق وحدوي بدراجاته المختلفة: التنسيق /التكامل /دعم التعاون الثنائي /التعاون الإقليمي.
أما مع أصدقائنا وشركائنا في العالم، فأظن أنهم يفضلون الصراحة على المخاتلة التي لا يمكن أن تنطلي على أحد:
نحن ضعاف. ولكننا نسعى للنهوض.
تدافعون على مصالح شعوبكم، من حقكم ذلك. ونحن من حقنا أن ندافع على كرامتنا ومصالحنا.
لا نسعى لحرب، ولكننا لن نقبل استسلاما.
أهل حلب معذرة إن قصرنا.
أخي الشهيد تقبلك الله في الصالحين، ولن تضيع دولة الثورة ولا شعب الثورة حقوقك.