حرب السلفيات.. التشخيص العلمي والعلاج الثوري
قبل رحلة عمل تدوم خمسة أيام -أستاذ زائر في الفلسفة السياسية- أريد أن أتكلم اليوم في معارك السلفيات التي يعاني منها الإقليم محليا وإقليميا ودوليا على مستويين اثني وديني.
ورغم أن معركة السلفيتين الإسلامية والمجوسية أو السنية والشيعية هي الطاغية فإن السلفيتين الأخريين أعني الاثنية والعلمانية دورهما لايقل وزنا. ولما كان الغرب نفسه لا يخلو منهما ولم يتحرر بعد من عدائه للإسلام بسبب تجربة القرون الوسطى فتدخله لصالح الأقرب له اثنيا وفكريا بين المعالم. ولعل أبرز مثال موقف الألمان من الفرس والكرد بالمقابل مع الترك حيث يجتمع الأثني والتاريخي فيجعل الخيار الموقفي دائما لصالح الأولين ضد الثالث. لكني لا أقدم دور هذه العوامل على المصالح حتى وإن كان هو بدوره من المصالح نظرا إلى أن الإسلام أصبح مخيفا لأوروبا بسبب الجوار والديموغرافيا.
قد يعاب علي اعتبار التشيع سلفية مجوسية أو فارسية. لكن لومي على هذه التسمية من دلالات عمى البصيرة لدى شيعة العرب: فزعماء إيران لا يخفون ذلك. هم لا يخفون أنهم يريدون استرداد امبراطورية فارس: وهم صرحوا بأنهم أخذوا أربعة عواصم وكلنا يعلم أنهم يسيطرون على أربع عواصم أخرى (3 خليجية والرابعة هي مصر).
صحيح أنهم يقاسمون إسرائيل هذا الهدف والسيطرة لكن إسرائيل تعمل بصمت لأنها قوية فعلا وإيران تعمل بضجيج لأن قوتها دعائية أكثر مما هي فعلية. لذلك فما يحيرني فعلا هو موقف الشيعة العرب. وكنا نجد فيه شيئا من تقديم العقدي على العرقي لو كان من ينحازون إليه يقدمه مثلهم فلا يعادي العرب. وكنا نفهم أن موقفهم قد تكون علته تقديم العقدي على العرقي لو كانوا يطبقونه كذلك مع مذاهب الإسلام الأخرى لأن العقدي يتجاوز المذهبي إلى وحدة الدين.
ألم يحالفوا كل عدو للسنة حتى لو كان وثنيا (مغول الشرق سابقا) أو علمانيا على الأقل رسميا (مغول الغرب حاليا) ضد السنة عربية كانت أو تركية؟ تلك نتائج الفتنة الكبرى التي أحياها الخميني بما يزعمونه ثورة ويوجد مثيل لها لا يقل عنه حدة هو نتائج الفتنة الصغرى التي زرعها الاستعمار في عقول النخب العميلة التي أورثها مستعمراته.
والفتنة الكبرى علتها السلفية المجوسية أو التشيع وهي تريد فرض تحريفين على النظام الروحي والسياسي الإسلامي: الكنسية والحق الإلهي في الحكم. فآل البيت تعني آل بيت النظام الفارسي وليس آل بيت رسول الله فهؤلاء في القرآن هم نساؤه لا غير. فالإسلام ينفي الكنسية والحق الإلهي في الحكم لغير الأمة. فدهاة الفرس واليهود بعد الهزيمة العسكرية لجأوا إلى الحيلة التي كان بعض الطامعين في الحكم سماعين لها فنشأ حزب انقلب على شرعية رفضته مرات. وهو لا يزال كذلك. ولهذه العلة فهو انقلابي بمعنيين: أي إنه عديم الشرعية الشعبية ويعتمد في الحكم على تحالف مع كل عدو غاز: مغول الشرق (بقيادة هولاكو) والصليبية قبله ومغول الغرب (بقيادة بوش) والاستعمار قبله.
أما الفتنة الصغرى فهي حديثة ولا تقل خطرا عن الفتنة الكبرى. فهي أيضا تعتمد على حلف مع غاز متوحش هو الاستعمار الغربي الحديث في كل بلاد العرب. ومثلما أن الفتنة الكبرى مجوسية فإن الفتنة الصغرى غربية نتيجة لموقف الغرب خلطا بين الكنيسة والدين فحاربه ببديل منها: كنيسة العجل الذهبي. فما يسمى علمانيا وليبيراليا من النخب العربية لم يدركوا أن الغرب اراد أن يتحرر من تحريف الحريتين الذي اعتبره الإسلام متمثلا في الكنسية والحق الإلهي في الحكم. وأن الغرب بدلا من التحرر من هذين التحريفين -الكنسية والحق الإلهي للمحافظة على الحريتين الروحية والسياسية- عوضهما بكنسية الدنيا وبالحق الطبيعي. ومعنى ذلك أن الموقف المجوسي يوجد على يمين الإسلام بالنكوص إلى الكنسية والحق الإلهي بالمعنى القديم والموقف العلماني على يساره ببديلين منهما.
والبديلان منهما هما أساسا الوثنية الحديثة: وثنية عبادة الهوى والإخلاد إلى الأرض والاحتكام على القوة المادية التي هي دين نخب عربية مستعمرة ذهنيا. وذانك هما فكا الكماشة التي تريد خنق السنة في الإقليم عربيها وتركيها. وهم لا يعيرون أهمية لباقي السنة كالكردية في الإقليم أو في غيره. ذلك أن الجميع يعلم أن دولة الإسلام صمدت واتسعت بفضل العرب والأتراك. العرب أسسوا لبدايات وزراعة البذرات والأتراك حفظوها وحموها فرعوها إلى بداية القرن الماضي. وذلك ما لا يريد أعداء الإسلام الداخليين (من تنكر في الإسلام من الفرس والروم) والخارجيين (أوروبا ووريثها وروسيا) نسيانه ويخشون عودته. فكأن فكي الكماشة وجها حرب أهلية في نفس الشعب عربية عربية وتركية تركية (الفتنة الصغرى) وفي نفس الأمة (الفتنة الكبرى) يوظفهما العدو الغربي. لكنهما في الحقيقة عودة ماضيين أو موقفين حاربا الإسلام ومن حمل رايته حتى صار رمزا له بالخلافة أي العرب بداية والأتراك غاية ولا يزالان.
فأما عودة الماضي الأول فهي عودة ماضي الامبراطوريتين اللتين حرر الإسلام الإقليم منهما -فارس وبيزنطة- وبعض من بقي من توابعهما في الإقليم. وأما عودة الماضي الثاني -وهو ما يزال حاضرا فينا وفي جوارنا- فهي عودة الماضي الاستعماري الذي صار استعمارا غير مباشر بذاته ومباشر بورثته منا.
إذن فكا الكماشة صارا أربعة أفكاك: ماضي الفتنة الكبرى تشيع صفوي وورثته منا أو تشيع عربي. ماضي الفتنة الصغرى أو الاستعمار: الغرب وورثته منا. ورمز الماضي الأول: مليشيات إيران الفارسية ومليشياتها العربية بالسيف وبالقلم. رمز الماضي الثاني: الغرب وعلمانيو العرب وليبراليوهم وماركسيوهم. ذلك ما نشهده بالعين المجردة في حروب الهلال مع ضرورة مضاعفة هذه الكماشة المربعة: فلكل فك منها نظير في المقاومة سيطرت عليها به مخابراته. نحن إذن أمام حرب شديدة التعقيد: كماشة مربعة الأصبع تحيط بالمقاومة من خارجها ولها أربعة أحصنة طروادة في داخلها زرعتها مخابرات الكماشة.
هذه التغريدات الأخيرة أختم بها كلامي في الوضعية الاستراتيجية التي آمل أن يتدبرها المقاومون الخلص وسأستأنف الكلام فيها بعد عودتي إن شاء الله.
طبعا لم أنس السلفية الإثنية. لم أتكلم عليها على حيالها لأنها في الحقيقة من توابع الفتنة الصغرى: هي بنت الوهم الغربي القائل بالأعراق الصافية والنافي لوحدة البشرية والمفاضلة بين الأعراق فيبني الدولة الوطنية عليها. وكان الكثير يتصور ذلك دليل تقدم وهو في الحقيقة من علامات تخلف الوعي الإنساني في الغرب: ليس لهم مثل النساء 1 ولا الحجرات 13. عنصرية غربية.
ولذلك فالسلفية الإثنية أو العرقية تابعة للفتنة الصغرى لأنها من آثار الاستعمار. نحن المسلمون أبطالنا لا يحددهم العرق بل الأخوة الإسلامية. فصلاح الدين كردي وطارق بن زياد أمازيغي وجل علماء الأمة من كل الإثنيات والقليل منهم من العرب والأتراك والبشرية اليوم ذاهبة في هذا الاتجاه اللاعرقي لإثراء الحضارات. لكن ورثة الاستعمار من النخب المستعمرة ذهنيا أسسوا دولا ذات أساس اثني اضطهدت الإثنيات الأخرى وعاملوها كأقليات يريدون فرض ثقافتهم عليها. فأنتجوا السلفيات الاثنية التي لم يكن لها وجود: فنحن في المغرب العربي لم نكن نميز بين المسلمين ولم يكن مشروطا فرض الإثنية العربية سياسيا. لذلك فجل زعماء الثورة الجزائرية كانوا أمازيغ لكنهم لم يكن لهم النزعة الأمازيغية التي صارت تعتبر العروبة أحيانا الإسلام استعمارا يحاربونه بدوافع اثنية وعرقية. وما بدأ ينشأ من مقاومة للإسلام باسم الاثنيات العنصرية ليس في الشعب الكردي والأمازيغي بل في نخب الفتنة الصغرى المستعمرين ذهنيا وماسونيا من بينهم.
لم يعد الإسلام عند هذه النخبة العميلة دين الشعب دون اعتبار للأعراق بل صار دين العرب الذين يعتبرونهم مستعمرين لهم وينسون أن أجدادهم هم الذين نشروا الإسلام وكونوا دولا باسمه. وأغلب هذه النخب في المغرب العربي يحتجون باسم الأمازيغية وهم يبشرون بالفرنسة وهم في الحقيقة يسعون إلى تحقيق ما تم في بعض بلاد أفريقيا ما دون الصحراء: الانضمام إلى الفرنكفونية. والحجتان موجودتان فضلا عن تفرنج القيادات: الأولى هي تعدد اللهجات الأمازيغية بحسب المناطق والثانية هي الحاجة إلى لغة موحدة وعالمية وهما حجتا نخب أفريقيا الذي أورثهم الاستعمار المباشر خدمة غير المباشر.
والعلة في ذلك مضاعفة: فهي أولا نتيجة سياسة الاستعمار بمنطق فرق تسد ثم توطد الأمر بعد الاستقلال عندما تأسست الدول القطرية على الاثنيات. والكل يعلم أن ذلك كان أهم مفجر للخلافة. فالتفجير بدأ بالقومية التركية. والقومية العربية كانت قياداتها في العمق ذات نزعة مسيحية وطائفية تتخفى بالقومية. وطبيعي أن يذهب التفجير إلى الغاية لأن الدول القطرية التي نشأت لم تكن صافية عرقيا ولا طائفيا ومن ثم فلا بد أن يتواصل التفتيت فوراؤه محركان.
فأما المحرك الأول فهو طبيعته: ما بدأ ففتت الخلافة سيتواصل ليفتت ما نتج عنه لأن الخلافة كانت مؤلفة في كل أقاليمها من نفس التركيبة المتعددة. وأما المحرك الثاني وهو الأخطر فهو زرع إسرائيل التي تتأسس على فكرة الشعب المختار والذي من شروط بقائه مختارا أن يجعل ما حوله جوهيم اي عبيدا. ولا يمكن أن يستعبد من حوله إلا بشرطين: أن يفتتهم حتى لا تتكون قوى تهدده وثانيا أن يجعل أساس التفتيت من جنس مبدئه أي إزالة الأخوة بينهم.
ذلك هو المشهد وآمل أن يكون وصفي غير مقصور على مظاهره بل هو تجاوزه إلى أعماقه وعلله حتى يكون التشخيص كافيا للتعليل وللعلاج غاية للثورة.