الإرهاب في تونس: سؤال الوطن.. سؤال المواطنة
بحث في جيولوجيا الفكرة
مازلت على يقين أنّ معالجة الظاهرة الإرهابيّة في تونس لابدّ أن تمرّ بطرح سؤال المواطنة. وأنا كذلك على يقين أنّ المعالجة الأمنية والعسكريّة لا تكفي للقضاء على هذا الفكر أو ما تمارسه الجماعات الإرهابيّة من جرائم في مواجهة الدولة.
كثيرون ولدوا وعاشوا ثمّ ماتوا ولم يشعروا قطّ أنّهم أبناء لهذه الأرض وهذه الدولة… ولابدّ من الإقرار بحقيقة ثابتة في نفوس الكثيرين وهي أنّ الدولة التونسيّة منذ الاستقلال ليست لجميع سكّانها.
أسئلة ذات مضامين وجدانيّة تحدّد اختلاف الموقع والرؤية وتعيد طرح السؤال الأهمّ الذي تلكّأ السّاسة في الإجابة عنه. هل نحن مواطنون أم مجرّد سكّان لقطعة من الأرض؟ إنّه الاختلاف بين مفهوم الدولة ومفهوم الوطن.
الوطن يتجاوز التعريف السياسي والقانوني والتاريخي للدولة هو حالة انتماء وجداني عميق وهو كذلك حالة من الانتماء الذهني والنفسي إنّه لحظة انصهار وجداني واختزان عاطفي لمكوّنات متداخلة يلتقي فيها التاريخي والخرافي والديني وهو الإجابة العفويّة والعاطفيّة عن سؤال تونس وشعبها.
تونس الأرض والوطن ليست واحدة في نفوس أبنائها وهي عند البعض سنون القهر والفقر والحرمان والانقطاع عن حلم الدّراسة بسبب قلّة ذات اليد.. وهي الموت في المسالك البعيدة في رحلة أخيرة نحو مستشفيات العاصمة أو المدن السّاحليّة وهي أحيانا العجز على إكمال الدّراسة الجامعيّة بسبب الحاجة.
في تونس لا يتّفق التاريخ الرّسمي الذي كتبه “المنتصرون” مع ما تختزنه ذاكرة النّاس في الجنوب والمناطق الدّاخليّة. وكثيرون من طلبة المناطق الداخليّة والجنوب التونسي يقرؤون تاريخا يعلمون مواضع الزيف فيه. لقد ارتبط التاريخ التونسي المعاصر بخرافة الزعيم وما أنتجه من سياسات تنمويّة وثقافيّة وتربويّة والزّعيم عند كثير من التونسيين صورة مؤلمة تختزنها ذاكرة السجناء والمهمّشين والفقراء والمحرومين.
جغرافيا تونس لا تعرّف طبيعيّا أو مناخيّا وإنّما هي جغرافيا اجتماعيّة وتنمويّة ومناخ سياسي واقتصادي واستثماري.
على السّاسة إعادة طرح السؤال الحقيقي لأنّ حسن طرح السّؤال من حسن الإجابة والسؤال في كثير من الجهات هو سؤال الوطن والمواطنة. وحين يشعر النّاس بوحدة الانتماء الوطني حتما ستختفي كثير من العبارات التي شكّلت الواقع السياسي والأمني في تونس اليوم ومنها عبارات الإرهاب والإرهابيين.
مسألة الهويّة التي ألغاها بورقيبة عبر إلغاء التعليم الزيتوني ومواجهة الفكر الإسلامي لابدّ من إعادة طرحها بعيدا عن الصرّاع الفكري والسياسي ولابدّ أن يدرك السّاسة أنّ المسألة التربويّة مسألة تتجاوز الخيارات السياسيّة للأحزاب وتتجاوز الصّراع الإيديولوجي حول مسألة “النّمط المجتمعي” لتقع في صميم البناء المتوازن لشخصيّة الفرد التونسي غير المستلب غير المتغرّب أو المتعصّب ولئن أدرك اليسار التونسي في بداية التسعينات أنّ المعركة الفكريّة مع العدوّ الإيديولوجي (الإسلاميون) ساحتها التعليم عبر “سياسة تجفيف المنابع” فقد أنتج جيلا لا ينتمي إلى المضمون التربوي المضمّن في البرامج والمناهج الدراسيّة بل إنّه يعاديها..
الإعلام كذلك ساحة أخرى من ساحات إنتاج العنف والجريمة وكذلك الفعل الثقافي في تونس كالمسرح والسينما وغيرها من الأعمال الفنيّة التي تميل إلى ترسيخ الشخصيّة المحبطة والمغتربة والشاذّة والمناقضة للعمق القيمي للشخصيّة التونسيّة.
كثيرون يجب “محاكمتهم” رمزيّا وعبر إعادة الصياغة لما أنتجوه سياسيّا وتربويّا قبل الشروع في معالجة الظاهرة الإرهابيّة المعقّدة من حيث التحليل والمركّبة من حيث العناصر البنائيّة المكوّنة لها.
يجب محاكمة السّاسة الذين رسموا الملامح الأولى لدولة الاستقلال على جريمة حقيقيّة في حق جهات كثيرة. ويجب محاكمة المشرفين على السياسة التعليميّة منذ الاستقلال وكلّ الذين رسّخوا الاستبداد والقمع باعتباره منهجا من مناهج مواجهة خصوم السياسة والفكر ويجب محاكمة المنظومة الإعلاميّة والقضائيّة والأمنيّة التي كانت وسائل طيّعة بيد الجلاّد والظلمة.
المعالجة الأمنيّة للظاهرة الإرهابيّة لا تسقط المطالبة باحترام حقوق الإنسان والحريّات ولا يمكن أن تشرّع لعودة الممارسات القديمة فقد أنتج هؤلاء “العائدون” إلى وزارة الداخليّة وبقيّة المؤسسات ما تعانيه الدولة التونسيّة اليوم من تفاوت اجتماعي وجهوي وفشل في المنظومة التربويّة والأمنيّة والعسكريّة.
الشباب الذي توجّه إلى مناطق التوتّر في العالم وتبنّى الفكر المتطرّف والعنيف أمضى سنوات تكوينه الفكري والوجداني في ظلّ نظام ابن علي. وكان الثمرة القاتلة لسنين عجاف من القمع والظلم والتعمية والتلهية والتجويع والترويع : فكيف يسأل الزرّاع عن فساد نباتهم ؟