مقالات

إنّه الفجر الكاذب.. كان هذا منذ 29 عاما

زهير إسماعيل
“إنّه الفجر الكاذب” هو عنوان لأول بيان سياسي في انقلاب 7 نوفمبر 1987 (استُعملت يومها عبارة “فجر السابع من نوفمبر” في إعلام النّظام). صدر البيان صبيحة 8 نوفمبر بدار المعلّمين العليا بسوسة. وكان البيان بإمضاء الاتجاه الإسلامي في الحركة الطلابية (كانت في دار المعلمين العليا وضعيّة خاصّة تعايشت فيها حساسيات إسلاميّة مختلفة يعيش أغلبها استقلالية تنظيمية، حساسيات ليس بالضرورة أنها كانت واعية بنفسها ولكن أسمح لنفسي بتصنيفها اليوم كالآتي: اتجاه إسلامي، يسار إسلامي، إسلاميين عروبيين، ملامح تيار مضاد للدولة، ولكنها كانت سياسيا موحدة)…
إنّه الفجر الكاذب… بيان علّقناه يوم 8 نوفمبر 87 صباحا بمبيت دار المعلمين العليا. كتبناه معا واقترح سامي براهم، إذا لم تخنّي الذاكرة، أن نكتبه باللون الأحمر. وكان الأمر كذلك: بيان أحمر. كان خطّ علي بن شعبان والمبروك فارس رائعا. وقمنا بتعليق البيان وحمايته بأحزمة (cordons). (وللشهادة، لم أر إقداما كإقدام سامي براهم، حين مُنع العمل السياسي في الجامعة سنة 87: منع الاجتماعات العامة والتظاهرات وتعليق النصوص. ولم يجرؤ فصيل سياسي على عقد اجتماع أو إصدار بيان. فعمد سامي إلى إنزال بيان باسمه، وهو المستقلّ، يخرق فيه الصمت والمنع ويرثي فيه لحال القوى السياسية المحجمة والساكتة جبنا…) (هذا مما علق بالذهن إن لم تقعد بي الذاكرة ثانية، التصحيح مطلوب إن أخطأت).
كانت الجامعة يومها ماتزال معسكرة. وكان أغلبنا يعيش وضع الاختفاء (بطاقات تفتيش في أغلب رموز العمل السياسي والنقابي بالدار لم تستثن فصيلا). وكنا نتسلل بطريقتنا داخل المبيت على مدى المواجهة مع نظام بورقيبة المتهالك. وهي المواجهة التي استمرّت من منتصف مارس 1987 إلى 7 نوفمبر 1987.
كانت أرواحنا على أكفّنا، رغم اتساع الاعتقالات ليشمل الآلاف، وكنّا على يقين من أنّ النظام سيسقط شعبيّا. وكان للحركة الطلابيّة دور فعّال في المواجهة الميدانيّة. فمثّل انقلاب بن علي بالنسبة إلينا خيبة أمل كبرى ونوعا من الشعور الغامض، حتّى أنّ أحدهم علّق: “بارتي ومساطت”، كمن كان يلعب في البطولة المحترفة ونزل إلى القسم الثاني. بورقيبة كان خصما عظيما. وأنت تواجهه تفتح مواجهة مع أهم فترات تاريخ تونس تعقيدا، رغم استسهالنا إطلاق الشعارات القوية تجاهه. وكنا نعتبر أنّ إسقاط بورقيبة يومها إسقاط لصنميّة عششت في أذهان الناس، وانتصار لأجيال من المناضلين مختلفي المشارب. وقد كان من عرفناه من يوسفيين ولا سيما من كانوا من أقاربنا وعانوا من التنكيل في غار الملح لا يصدّقون بإمكانيّة سقوط بورقيبة. بل إنّ كثيرا منّا لم يكن يتصوّر تونس دون بورقيبة.
كان هذا هو الشعور السائد عند أغلب الذين عارضوا نظام بورقيبة وتمنوا العيش فيه بكرامة في ظلّ وضع سياسي مختلف. وفي هذا السياق صغنا البيان.
قلنا في البيان، إنّ هذا انقلاب على الحركة الشعبيّة في الشارع وهو إنقاذ للنظام بتدبير مخابراتي أجنبي. وشبهنا الانقلاب بانقلاب الجنرال كنعان إفرين في تركيا عام 1980 على الحكومة برئاسة اليساري بولند أجاويد.
وختمنا البيان بأنّ الذي تم يوم 7 نوفمبر انقلاب، وهو فجر كاذب وأمّا الفجر الصادق فسنصنعه بدماء الشهداء ونضال الحرية المتواصل… كان هذا هو خطابنا يومها. وهو ما يفسر استهجاننا الشديد يومها للقولة ذائعة الصيت في صائفة 88 “ثقتنا في الله وفي رئيس الجمهوريّة”. ولن يفهم هذا اليوم إلا بالسفر إلى تلك اللحظة ومحاولة الاقتراب من مزاجها العام.
بعد سنة على البيان، وما عرفته البلاد من “وعود” كنّا بسلامة طويتنا نعرف أنها زائفة، اعتبر بياننا قوصويا وفيه ما فيه من تسرّع فرضته طبيعة المواجهة سنة 87 والدماء التي سالت فيها وحجم التضحيات في سبيلها.
في 1992، وكنت يومها أستاذا بالتعليم الثانوي، وكانت الحملة على حركة النهضة في أوجها، التقيت بصديق من الوطد بمشرب كليّة 9 أفريل، كان انتقل إلى كليّة 9 أفريل لإتمام دراسته في اختصاص التاريخ والجغرافيا. وما كدنا نفرغ من التحيّة والسلام والسؤال عن الأحوال حتّى بادرني بقوله: إنّه الفجر الكاذب… قلت له: ذهبت مع أصحابها.
87 كان من فرص التاريخ الكبرى التي تمّت إضاعتها في مسيرة التحرّر الوطني وبناء الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة، وقد ضُّيعت قبلها فرص أخرى كان أهمّها في 56 و 62 و 81… تلك الفرص الضائعة قد نجد فيها تفسيرا لما نتخبّط فيه اليوم… تفسيرا لتجربة الدولة وما حفّ بها من ظواهر سياسيّة واجتماعيّة.
إنّه الفجر الكاذب بيان ثلّة من الطلبة كانوا يرون الأمور على طريقتهم وفي شروط معلومة… كان هذا منذ 29 عاما.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock