أمريكا.. هل تخليها عن محمييها نقمة أم نعمة ؟
أبو يعرب المرزوقي
ما يوصف بتخلي أمريكا على محمييها من حكام العرب هل هو نقمة أم رحمة؟ إذا نظر إلى الأمر في العاجل فيمكن اعتباره نقمة. لكنه في الحقيقة والآجل رحمة بالشعوب وحتى بالحكام إن عاد لهم الوعي.
فالحماية الأمريكية لحكام العرب -لخدمة ما تحتاج إليه من أرضهم- جعلتهـم ينامون إلى أذنيهم متوهمين أن الأمريكان مرتزقة يكتفون هم بدفع أجورهم لحماية أنظمتهم.
لم يكونوا دارين أن إبقاءهم ليس فيه اعتراف بسيادتهم بل هو خدعة لاستعمالهم حراسا لمصالحهم وطغاة على شعوبهم بوصفهم عبيدا لخدمة تلك المصالح.
فالغرب جرب جلب العبيد إليه والذهاب لاستعمار بلدانهم واستخراج ثرواتهم فوجد في ذلك كلفة لا يطيقها فكانت حيلة التخلص من الاستعمار المباشر.
فالاستعمار غير المباشر أقل كلفة وأيسر إدارة: إبقاء العبيد حيث هم واستعمال بعضهم للسلطان عليهم عن بعد مع إيهامهم بأنهم سادة ما دام لهم عبيد هم شعبهم.
لم يفهموا أنهم كانوا محميات تدفع الجزية حتى تركهم الامريكان فتبين لهم أنهم لا يحترمون إلا من يصمد أمام طغيانهم ولا يتردد في تحديهم فيقنعهم بوجوده ندا مستقلا.
وفي الحقيقة فالتجربة العربية مع الأمريكان هي تجربة كل العبيد مع الأسياد لكنها تتميز في حالة العرب أنهم يتوهمون أنهم هم الأسياد وغيرهم خدم.
ما أريد أن افهمه هو هذا الوهم العربي الذي يتصور حماته خدما عنده ولا يدرك أنه عبد لهم للفرق بين الحامي لمصلحته والمرتزق العامل عند مستخدمه.
كيف استطاع الأمريكان خاصة والاستعمار غير المباشر عامة اقناع الانظمة العربية بأنه يحميهم بموجب صداقة ومصلحة مشتركة حتى ظنوه خادما لهم؟
هكذا تفعل فرنسا وأمريكا وروسيا في المغرب العربي وتفعل انجلترا وأمريكا وروسيا في المشرق العربي وهو ما يناسب الاستعمار غير المباشر بالأنظمة.
الحضور المباشر للاستعمار لم يعد ضروريا لأن الأنظمة المحمية تحقق ما كان يقتضي حضوره من المباشرة ويبقى له غير المباشر باسم التعاون والصداقة.
هذه الوظيفة التي تقوم بها الأنظمة فتغني الاستعمار عن الحضور المباشر هي التي يقايضها الاستعمار بما يمثل حفظ ماء الوجه فتتنكر الحماية تعاونا.
لذلك أحذف الزيادة التي تفيد التعاون بالفرنسية -co وأبقي على الكلمة opération بمعنى انها عملية استعمارية وليس تتعاونا بين المحمي والحامي.
فلا افهم ماذا يمكن أن تعين فيه أي دولة عربية فرنسا أو انجلترا أو أمريكا أو روسيا في ما عدا ما كان يقوم به الاستعمار المباشر في بلادنا.
ويمكن تلخيص وظائف حضور الاستعمار المباشر الذي كلفت به الانظمة هو تحقيق ما فشل فيه لكون حضوره كان دافعا لحركة الشعوب من أجل التحرر من حضوره.
ومعنى ذلك أن الأمر لا يتعلق بتعاون بل باقتسام عمل الاستعمار: يكلف الأنظمة بالادارة المباشرة لمستعمراته مقابل حماية استبدادها وفسادها.
وسأضرب مثالين أحدهما يتعلق بالسياسة الاقتصادية والثاني بالسياسة الثقافية أي بمقومي كيان أي أمة حرة: من ينكر تضاعف تبعيتنا للمستعمر فيهما؟
صحيح أن “الفترينات” يمكن أن تفيد أن بلادنا نمت بعد خروج الاستعمار المباشر اقتصاديا وثقافيا. ولولا الثورة لظلت هذه الكذبة قابلة للتصديق.
وهي صحيحة إذا كان القصد أنها أنتجت لضرورة إدارة المستعمرة طبقة حاكمة تعوض ما كان ممثلا لحضوره المباشر: لكن البقية تدنت اقتصاديا وثقافيا.
طبعا أصحاب الكاريكاتور الحداثي لن يصدقوا ما أقول لأنهم يتصورون أن فرنسية “البتي ناجر” (تحقير استعماري من عجمة الطفل الزنجي) ونمط العيش الغربي من دون شروطه علامتي تحضر وتقدم.
لكنهما في الحقيقة من عوائق التقدم والتحضر ولايتجاوز دورهما ما نتج عنهم فعلا من موت للاقتصاد المناسب لقدرات البلاد والثقافة المحيية لكيانها.
وما ينتج حقا هو أحد الهروبين لشباب الأمة: الهجرة إلى ما يتوهمونه مستقبلا فيه مفتاح جنة الدنيا (حاضر الغرب) أو الهجرة ما يتوهمونه ماضيا فيه مفتاح جنة الأخرى (ماضي المسلمين).
ولعل سر ما يقال عن الشباب التونسي من أنه أكثر شباب العرب حضورا في ما يجري في الهلال وفي الهجرة غير النظامية هو الظاهرة التي أحاول وصفها.
هذا ثقافيا أما اقتصاديا فكل الأعمال التي كانت مصدر رزق للاسر والأفراد وكان يمكن أن تتطور شرط استقلال وعدم التبعية وأدتها التبعية الثقافية.
لم يعد أحد من الشباب يتعلمها أو يقبل عليها وقد ناقشت أحد وزراء بورقيبة الحمقى -وكان أقواهم بسلطان اتحاد الشغل- ناقشت نظرته الاقتصادية ذات ليلة في دار المعلمين العليا.
كان يدعو إلى تعويض الزيتون بالورد والملكية الخاصة للارض بالتعاضد أو الملكية العامة فكانت أولى نكبات “تعلم الحجامة” في رؤوس اليتامي للحمقى وزعماء البهامة.
واليوم كل شباب المغرب العربي وهم بالملايين عاطلون لأنهم كلهم يريدون وظائف إدارية في دول كسيحة لا تنتج حتى ما يسد الرمق ما جعلها متسولة.
وقد يكون أبرز مثال من هذه الوضعية الجزائر: فمساحتها أضعاف مساحة فرنسا لكنها لاتكاد تنتج شيئا مما تستهلك بل كل شيء فيها مستورد مقابل الخام.
والمعلوم أن استعمارها كان بسبب تلكؤ من صار مستعمرها في سداد دينه لها مقابل القمح. الجزائر التي كانت تصدره لفرنسا صارت تستورده من روسيا وفرنسا بل هي تستورد لجل قوتها.
وهي ليست الوحيدة. فالعراق في عهد عنتريات صدام وهو بلد النهرين كان يستورد تسعة أعشار معاشه وطبعا فما يصح فيه يصح من باب اولى على بقية العرب.
انهيار التنمية الاقصادية والتنمية الثقافية لا يمكن أن يفيد أن الاستقلال حرر الشعوب بل هو زادها تبعية ما يعني أن الاستعمار غير المباشر أدهى وأمر.
لماذا هو أدهى وأمر؟ لعلتين : أولا لوهم الاستقلال الكاذب الذي يغطي على التبعية ولعدم كفاءة الإدارة الأهلية التي عوضت الادارة الاستعمارية.
ونفس الأمر يقال عن التعليم. فلا شك أنه بمعيار إيديولوجي مخادع وليس معرفي أو اقتصادي ولا حتى تثقيفي لأنه صار تهجيني حضاريا وتعقيمي اقتصاديا وتجهيلي معرفيا.
لذلك فقليله السابق أفضل ألف مرة من كثيره اللاحق لأنه صار محوا للأمية لا يحقق غايات التعليم المعرفية والخلقية والاقتصادية فصار عائقا للتنمية بكل معانيها وليس مساعدا عليها.
تكدست الشهادات وقلت الكفاءات فكان التعليم محضنة البطالة والسفالة لأن التنافس فيه لم يعد العلم والعمل على علم بل تخريج جيوشا من أرباع المثقفين.
ومن جيوش المتشاعرين والمتناثرين من زبائن المقاهي والحانات لصف كاريكاتور الحداثة أو زبائن المساجد والدروشات من صف كاريكاتور الأصالة وهم في الغالب مخبرين في أجهزة الاستبداد والفساد.
والمثال الأبلغ هنا هو مصر: فمصر قبل ما يسمى بالثورة كانت في أفضل حال ألف مرة مما هي عليه الآن بعد ستة عقود من الإدراة الأهلية بعنتريات ثورية.
التخلي الأمريكي على الانظمة التي كانت تستظل بحمايته لا شك في أنه في العاجل نكبة للأنظمة وقد صاحب ذلك فقدان المورد الذي كان يوهمها بالثراء فسقط الغطاء.
كلاهما نكبة عاجلة. لكنهما إذا عوملا بوصفهما ما كان ينبغي تجنبه من الأول وقاية وما بات واجبا تجنبه علاجا فإنهما يمكن أن يصبحا رحمة وبداية جديدة.
ذلك ما ندين به لثورة الشباب التي انطلقت من بلاد الزيتونة والشابي وابن خلدون ثم انتشرت في القلوب والأذهان التي ستتحرك لتغير الشعوب والأعيان.
وهذه الثورة لن يصدها لا شياطين الإنس ولا شياطين الجان: فهي ثورة الفتيان بدأوا يتحررون في كل مكان ضد الطغيان الذي لا يرضاه فضلاء الإنسان.
وصادف تاريخيا بمقتضى مكر إلهي خير أزمة البشرية كلها التي باتت ضحية لعولمة متوحشة جعلت حكام العالم كلهم توابع لمافيات خفية تستعبد البشرية.
وإذن فما جرى في بلاد العرب والمسلمين بلغ ذروة الفساد في الارض الذي عم الأرض فصرنا نموذج دمل البشرية ومن ثم منطلق بطه كونيا مرة أخرى بحق.
وهذا هو قصدي بالرحمة. التاريخ الكوني مرة أخرى نصبح نحن محوره:
1. حررنا البشرية من طاغوت فارس وبيزنطة ووكهنوتهما.
2. وسنحررها من عبودية العولمة.
ومثلما أن ثورتنا الأولى لما قمنا بها كنا على هامش التاريخ الكوني منفعلين به فنحن اليوم على هامشه ومنفعلون به. لكن شبابنا الثائر بدأ النقلة بالفعل إلى الفعل.
ذلك ما ستدين به الإنسانية لشباب العرب الذي تحرر من كاريكاتور الأصالة ومن كاريكاتور الحداثة وسما إلى القيم الكونية أي إلى جوهر ثورة الإسلام.
وتلك هي دلالة شعارات الثورة: الحرية والكرامة وإرادة الأمة وهي تتلخص في بيتي الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة ** فلا بد أن يستجيب القدر.
ولا بد لليل أن ينـجـــــــلي ** ولا بد للقيد أن ينكســــــر.
فهذان البيتان ليسا في الحقيقة إلا صوغا شعريا جميلا لسنة التغيير كما حددها القرآن الكريم: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ).
تغيير ما بالأنفس شرط تغيير الله ما بأصحابها وترجمتها الشعرية إرادة الشعب شرط في إرادة القدر. الشابي بخلاف ما يتصور فقهاء الانحطاط لم يكفر بالقضاء والقدر بل فهم دلالتهما القرآنية.