تدوينات تونسية

من حكايات الخريف… النفط مقابل الغذاء

عبد الحميد الجلاصي
….ودون كثير مقدمات، قرر السيد عبد الرحمان منيف ما قرر .
– “امضيت سنوات طويلة من عمري أتعيش من النفط…”، هكذا قال. “فكيف يكون الأمر لو غيرت زاوية النظر. ماذا لو تعاملت مع النفط بطريقة مختلفة، لن أعتبره بعد اليوم مورد رزق. سأجعله، فقط، مادة للتأمل ؟!!!”
وهكذا قبض صاحبنا قبضة من أثر البدو في صحراء جزيرة العرب، وتأبط مقدمة أبن خلدون، ومعها مجلدات من تاريخ الجزيرة في بدايات القرن العشرين، واشترى كثيرا من الخيال، وترك الليل، والخيل، والبيداء، والسيف، واكتفي بالقرطاس، والقلم، وأرجع البصر كرة او كرتين -لا أتذكر- فتخيل البدايات…
تأمل النفط -او خليط النفط، وكثبان الرمل، والقبيلة، والأمريكان- فأنتج ببركة ابن خلدون وخياله الشخصي خماسية “مدن الملح”.
ملحمة من الملاحم الكبرى التي يجب ان نفخر ان لنا مثلها. يمكننا ان ننتج، نحن ايضا، اثرا مثلما ابدع بلزاك او تولستوي.
القاريء ينتقل بسلاسة وتشوق من “التيه”، الى “الأخدود”، الى “تقاسيم الليل والنهار”، الى “المنبت”، حتى نصل الى المستقر في “بادية الظلمات”.
منيف لم يغير هدفه طيلة حياته. له خيط ناظم. تتغير فقط الرسائل والمحامل.
دولة شرق المتوسط التي تطحن ابطاله كيف نشأت ؟
هنا في هذه الخماسية حديث النشأة.
كيف توجد الدولة ؟
كيف انتقلنا من سلطة القبيلة الى الدولة الحديثة ؟
هذه الدولة الحديثة التي طحنت ابطاله في “الأشجار واغتيال مرزوق” و”شرق المتوسط”، و”شرق المتوسط ثانية :الآن وهنا”.
أكتب الآن من الذاكرة. والذاكرة ماكرة. فهي انتقائية مثل قنواتنا التلفزية. تتقن فن الاخفاء والإظهار حسب الحاجة.
ولكن هذه الذاكرة تنسى أنه يمكننا -أيضا- ان نكون معها اكثر مكرا. فلا نظهر مما تسلمنا إياه الا ما نحتاجه. فيرتد السحر على الساحر، ولا يحيق مكر الذاكرة الا بها.
حينما تمتد ملحمة على عشرات السنين يكون التحول والانتقال هو البطل الأساسي. وهنا يكون منيف خلدونيا. وتتحول العصبية من عصبية الدم -الطبيعية-الى عصبية مصطنعة. وأدوات الاصطناع حينما يكون لك نفط ليست صعبة.
ربما تصور البعض ان الأمم المتحدة هي التي اصطنعت عبارة ‘النفط مقابل الغذاء” لوصف معادلة الولاء / المكافأة.
منيف يكذب هذه الرواية. يقول انها قديمة. ولكنه في نفس الوقت، وهذه خطورته وخطورة كتبه، وخطورة أبن خلدون معه، انه يقول انها قانون ملازم للعمران البشري، وانها تتكرر كلما تكررت اسبابها.
حمدا لله ان منيف توفي وقبله ابن خلدون، وهكذا نجيا من عذاب اليم.
مئات الشخوص عمرت الخماسية. ولكن لا اهتم كثيرا لا لخزعل، ولا لابيه، ولا لجده. لا اهتم لمن ذكر من العرب وللعجم. اهتم أساسا لصبحي المحملجي. هذا الشخص -هل هو كذلك؟- الزئبق، المتحول. الدكتور الذي جاء من حضارة الشام الى بادية الظلمات، فكان المفتي /المفكر /رجل الاعلام.
منيف أراد ان يقول ان اول ركائز الدولة في تاريخنا، وربما في تاريخ البشرية -قبل ان تصاب بداء الديموقراطية- هما الاعلام والاستعلام. وبينهما -حسبما يدعي- رابط ما.
الاعلام فن الاخفاء قبل الإظهار، وفن التزيين قبل الكشف. هو فن “ما يطلبه المستمعون” وقبل ذلك ما يطلبه اصحاب النفط.
اما رجل الاستعلام في الخماسية شخصية نشطة، لا تقتصر على الظواهر، فتلك يعلمها الجميع، وانما تصل الى النوايا وما تخفيه الضمائر.
الاكيد ان الخماسية كتبت بعد “بنك القلق” لتوفيق الحكيم. هل كتبت بعد “قصر الأحلام ” لإسماعيل قاداري ؟ لا ادري.
لكن ما ادريه ان رجل الاستخبارات في “الخماسية” هو اقل شهامة من “جافير” شرطي فيكتور هيغو في “البؤساء”. جافير كانت له شجاعة الانتحار لما اكتشف ان هناك شيئا ما فوق القانون اسمه الاخلاق. لم يتحمل تناقضاته فاسلم جثته لنهر “السين”.
هرب منيف من النفط مصدرا للعيش، ولكنه وجده اسمنتا تبنى به، او تخرب، الدول والجماعات.
لعله أراد ان ينبهنا لخطورة معادلة : النفط مقابل الغذاء.
لو كان منيف حيّا، لربما سأله سائل : “هل النفط هو النفط، ام يمكن ان يكون النفط غير النفط “؟
لكنه مات، وحمل سره معه.
رحمه الله، ورحمنا معه.
%d8%b9%d8%a8%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%ad%d9%85%d8%a7%d9%86-%d9%85%d9%86%d9%8a%d9%81

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock